توفى إلى رحمة الله تعالى الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى يوم 5 يناير نسألكم الدعاء له بالرحمه والمغفرة

الجمعة، 2 مارس 2012

عظماء بلا ضجيج - الأستاذ الدكتور أحمد الشاذلى / أ. د محمد هاشم عبد البارى

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عظماء بلا ضجيج..

الأستاذ الدكتور أحمد الشاذلي

بقلم الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد الباري

*******

 

"فيرى جود"!

قالها بلكنة بريطانية بعد أن وقف بضع دقائق أمامي يراقبني وأنا أرسم العقرب بالحبر الصيني الأسود الذي كنا نسميه "بالحبر الشيني". كان يمر علينا خلال الدروس العملية  "لعلم الحيوان العام"، ولكنني لم أسمعه يتكلم من قبل في الدروس السابقة،  فقد كان يحدث الطلاب بصوت خفيض لا يسمعه الآخرون.  قلت في نفسي بعد أن نظرت إليه شاكرا: "وهل الانجليز لا يزالون يدرّسون في الجامعات المصرية أم هو من بقاياهم؟"

كان أحمر الوجه بشارب وحواجب كثيفة سوداء جميلة،  من الصعب أن تصدق أنه مصري وبخاصة عندما سمعت منه "فيرى جود" تلك.  وقف يراقبني في صمت ولم يتكلم بالمزيد ثم انصرف وأنا لا أزال أعتقد أنه أستاذا انجليزيا يدرّس في الجامعة.

 

 كنا في الفصل الدراسي الجامعي الثاني عندما كنا ندرس علم الحيوان العام في السنة الأولى في العام الجامعي 1959/1960.

كنت قد تخرجت في المدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية بعد أن أنهيت الدراسة الإعدادية التي كانت أربعة سنوات.  كنت من الدفعة الأولى التي طبق عليها نظام الإعدادية.  فقد كانت الدفعة من الطلاب الذين سبقوني مباشرة ينتقلون من المرحلة الابتدائية مباشرة إلى المرحلة الثانوية.  كان بعض الطلاب الذين سبقوني بدفعات لا يزالون يتتلمذون في اللغة الانجليزية واللغة الفرنسية على أيدي مدرسين أجانب في بعض المدارس.  وكان هناك بعض الأساتذة الأجانب في الجامعات المصرية تقريبا حتى ذلك الحين.  فلا عجب أن أعتقد أن هذا الأستاذ انجليزيا من شكله ومن لكنته في الكلمتين المقتضبتين "فيرى جود".  وإذا كان مصريا فلماذا لم يقل لي مثلا "حسن" أو "أحسنت".  ولماذا يبقون على هؤلاء الانجليز في الجامعة وقد اعتدوا علينا مع الفرنسيين واليهود عام 1956 عندما كنت في الإعدادية، وكنت وزملائي نتدرب على البنادق التشيكي الجديدة، و كنا نتوزع للدفاع المدني على المنشآت والكباري والأماكن الحيوية مع جنود الجيش البواسل، عندما تحولت كل المدارس إلى ثكنات عسكرية وتحول كل طلابها إلى جنود صغار؟

 

كل ذلك كان يجول بخاطري وتتلاطم الذكريات في عقلي وقلبي التي استدعيتها وأنا أرسم الحيوانات مفصلية الأرجل في ذلك الدرس العملي لمجرد أنني رأيت ذلك الخواجة وسمعت منه "فيرى جود".

أخذ ذلك الأستاذ الأحمر اللون الانجليزي اللكنة الذي كان في أوائل الأربعينات من العمر في التجول بين الطلاب حول طاولات المعمل. وقبل أن ينتهي وقت الدرس وأنا أراقبه خلسة اتجه صوبي فتعمدت الانشغال عنه بفحص النماذج التي أمامي. وقف أمامي وأنا جالس على الطاولة قائلا:

 "أنا منتظرك في معملي بعد الدرس"

 وأخذ في وصف مكان المعمل،  فقد كنت طالبا في السنة الأولى ولم أكن متخصصا في ذلك الوقت لأنّ التخصص يبدأ في كلية الزراعة في السنتين الثالثة والرابعة.  بمجرد أن تحدث إلى بالعربية باللهجة العامية الواضحة أيقنت بأنه ليس خواجة وأن هواجسي كلها لم يكن لها لزوم. ثم أردف الأستاذ في تواضع عجيب:

"أنا اسمي أحمد الشاذلي"

بالطبع كطالب وفى السنة الأولى عندما يقول لي أستاذ أنه منتظرنا في معمله بعد الدرس العملي فانه لا يسعني إلا أن أذهب إليه مهرولا، وبخاصة إذا لم أكن أعرف سبب طلبه لي.  ذهبت إليه في معمله الذي وصفه لي فوجدته أنه لم يكن إلا تلك القاعة التي كانت تضم مكاتب أساتذة كلية الحقوق!  فقد كانت كلية الحقوق حتى ذلك العهد في كلية الزراعة حتى بني لها مبنى كبيرا خاصا في مجمّع الكليات النظرية، وكنت أحضر مناقشات الماجستير والدكتوراه في الحقوق في مسرح كلية الزراعة في ذلك الوقت، حتى أنني حضرت مناقشة رسالة دكتوراه في الحقوق لأحد مدرسي اللغة الفرنسية الفضلاء في مدرستي الثانوية "العباسية الثانوية"!  اننى فقط ألمّح إلى مستوى أساتذتنا في المدارس الذي كان!  وكانت كلية الهندسة ذلك الصرح العظيم قد تم اكتمال بنائها لتوه قبل أن تنتقل إليه من مبنى مدرسة "محمد على الثانوية الصناعية"!  كان معمل الأستاذ الدكتور أحمد الشاذلي هو قاعة مكاتب أساتذة الحقوق سابقا.


الأستاذ الدكتور أحمد يوسف الشاذلي رحمه الله وعلى يمينه كاتب المقالة عام 1971

 

 

أخذ الأستاذ الدكتور أحمد يوسف الشاذلي في تواضع منقطع النظير وببساطة العالم الواثق من نفسه في وصف معمله لي أنا طالب السنة الأولى، وكان المعمل كبيرا، سبعة أمتار عرضا وثلاثة عشر متر طولا وسبعة أمتار ارتفاعا.  كان يقول لي هنا تجد كذا وهنا تجد كذا وكأنه يشرح لي مكان اقامتى الجديد!!!  وقد كان!

فمنذ وطأت قدماي مكان المعمل أصبح هو مكاني في كلية الزراعة!  خصص لي مكانا أضع فيه مستلزماتي البسيطة دون أن يطلب صراحة أن أقيم في المعمل،  ولكنه دعاني ضمنا عندما خصص لي مكانا في المعمل!  وكان اليوم الذي أتغيب فيه عن المعمل يسألني منزعجا عن السبب!  أخذ يشرح لي بتواضع العالم وأنا الطالب الصغير أبحاثه في فسيولوجيا الحشرات وأخذ يشركني في العمل ويشرح لي الهدف من التجارب والأبحاث ويكلفني بالقراءة في موضوعاتها.  أخذ أيضا يطلعني على أبحاث الماجستير والدكتوراه التي يشرف عليها وأشركني في مهام طلاب الدراسات العليا وهمومهم، وكان يتلقى ويتقبل منى المشاركة المتواضعة في حلول المشكلات باهتمام بالغ. 

 

لقد كانت طبيعتي مختلفة نوعا عن بقية زملائي وأقراني في تلك السن.  كانت المصروفات السنوية للتعليم في كلية الزراعة تفوق ثلاثة أضعاف راتب والدي الشهري،  فلم تكن مجانية التعليم قد تقررت بعد.  لم أكن أقبل أن أكون سببا في ذلك العبء على كاهل الوالد رحمه الله، فقررت النزول إلى سوق العمل.  لم يكن في ثقافتنا أبدا في ذلك الوقت أن يعمل الطالب لكي ينفق على تعليمه.

بل كانت الثقافة العامة تنظر إلى مثل ذلك الأمر باندهاش ممتزج بالاستنكار. لم يكن أحدا من أقراني في الكليات العملية يعمل لينفق على تعليمه.  ولكن في الكليات النظرية كان البعض يدرسون في الجامعات وهم يعملون في وظائفهم، ولكن عملهم هو الأساس،  وربما يظل يدرس حتى يحصل على الليسانس بعد سنوات طويلة جدا.  ولكن أن يكون طالبا في كلية عملية ويعمل فقد كان ذلك أمرا مستحيلا،  وحتى من الناحية القانونية لم يكن مسموحا به.

عملت في التدريس في المدارس الابتدائية، وفى المدارس الإعدادية، وفى المدارس الثانوية!  حتى أنني كنت في بعض السنوات مدرسا في مدرسة ابتدائية ومدرس حصة في مدرسة ثانوية وطالبا في كلية الزراعة في آن واحد.  كنت أتقاضى راتبا شهريا منتظما من المدرسة الابتدائية راتبا قدره خمسة جنيهات وكنت أتقاضى نحو ستة جنيهات في الشهر من المدرسة الثانوية عن تدريس الأحياء والكيمياء!  لم يكن ذلك على حساب دراستي في الكلية فقد كنت منتظما تماما في جدولي في المحاضرات والدروس العملية،  وكنت موفقا من قبل الله تبارك وتعالى في التفوق.  عملت لمدة عام ونصف في المدارس دون أن يشعر أستاذي الدكتور أحمد الشاذلي ودون أن أخل بالتزاماتي في الدراسة والتحصيل ولا في التزاماتي نحو معمله الحبيب.

 

يوما أحسّ أستاذي الدكتور أحمد الشاذلي بذلك.  كان مندهشا ومتعجبا،  ولا أريد أن أقول معجبا.  فلم يكن ليظهر إعجابه بى أبدا إلا في كلمتي "فيرى جود" اللتين قالهما لي في أول الأمر، وقضى الأمر!  ويبدوا أنه كان مهتما، بل انه كان كذلك فقد شغله ذلك الأمر.  كان مفتاح المعمل معي وكان يطلق يدي في كل شيء في المعمل وإدارته وترتيبه وتنظيم العمل به.  كان للدكتور أحمد مكتبا بعيدا عن المعمل ولكنه كان يفضل المكوث في المعمل وحتى الساعة الحادية عشر والثانية عشر مساء مع تلاميذه طلاب الماجستير والدكتوراه.  لم يكن له مكتب للجلوس داخل المعمل ولكن كان له طاولة معمل طويلة أمام السبورة يجلس عليها مع تلاميذه.  كان جالسا إلى طاولته عندما ناداني وقد كنت أقف في إحدى التجارب إلى طاولة معمل أخرى فلبيت على الفور.

أعطاني قصاصة صغيرة من الورق قائلا: "اقرأ هذه الورقة". قرأتها فوجدت فيها: "شريف بك الهرّاوى، تحياتي. قادم إليك محمد هاشم عبد الباري، أرجو أن يوفق في تبييض وجهي كما سيوفق في تبييض الأرز".  في الحقيقة أنني أدركت أنه سيرسلني إلى أحدهم لأقوم بمهمة لا أعرفها وهو يعرفها سوف أفهمها في الوقت المناسب.  قال لي اذهب غدا إلى "شريف بك" الساعة الحادية عشر وستجده في انتظارك ووصف لي المكان!  لم أشأ أن أناقشه في التفاصيل ما لم يتحدث هو عنها.  كان المكان هو "شركة مضارب أرز القبّارى" في منطقة القبّارى التي تبعد عن الكلية نحو 12 كيلومترا.  ذهبت في الموعد المحدد بالضبط.  سألت عن "شريف بك الهرّاوى" على باب الشركة فوجدتهم يبالغون في الاهتمام بى وأوصلوني إلى مكتبه.  لقد كان المفوض على الشركة من قبل الدولة بعد تأميم الشركات.  دخلت إليه فرحب بى فسلمته قصاصة الورقة فطلب مدير شئون العاملين فوقف في أدب جم بين يديه فقال له:  "أكتب عقد لمحمد هاشم عبد الباري وسلمه العمل الآن"!!!

 

تسلمت العمل في شركة "مضارب أرز القبّارى" منذ نفس ذلك اليوم حتى تخرجي في كلية الزراعة.  في السنة التالية من العمل في الشركة كنت في السنة الثالثة بالكلية ومتخصصا في قسم الحشرات الاقتصادية.  لم يصبح لدى وقت للتدريس في المدارس فاعتذرت وتفرغت للدراسة والعمل في الشركة.  وحتى لا يتعارض العمل في الشركة مع المحاضرات والدروس العملية في الكلية فقد اخترت العمل في الشركة في الدوام الليلي من السابعة مساء إلى السابعة صباحا ومنها كنت أذهب إلى الكلية لحضور المحاضرات والدروس العملية.

أشركني أستاذي الدكتور أحمد الشاذلي في كل الأمور، وحتى أنه ترك لي أن أضع بعض البصمات في كتاب له قبل أن أدرسه رسميا في السنة الثالثة في التخصص!  كان شخصية فذة واثقة من نفسها كل الثقة.

 

تخرجت في قسم الحشرات بالكلية وكنت لا أزال موظفا في شركة المضارب.  ولكنني وفور تخرجي بدأت العمل في الشركة نهارا وسجلت للتحضير لدرجة الماجستير في فسيولوجيا الحشرات، وهو تخصص أستاذي العبقري الدكتور أحمد الشاذلي الذي جعلني أشتاق وأتعجل التخرج لكي أدرس الماجستير في ذلك التخصص.

أصبحت مغرما ليس بالدكتور أحمد الشاذلي فحسب بل وبتخصص الدكتور أحمد الشاذلي كذلك.  اختار لي دراسة فسيولوجية الأسيتايل كولين في الحشرات، وهو الناقل الكيميائي للنبضات العصبية في الجهاز العصبي المركزي في كل من الإنسان والحشرات.

 

لم يكن ذلك الرجل عالما عاديا.  كان يوزع تلاميذه لدراسة المقررات الدراسية في كليات مختلفة.  منها كلية الطب وكلية الصيدلة وكلية العلوم وكلية الهندسة وحتى كلية الآداب.  كان يثقل على تلاميذه في العلم، ولكنه هو أول من يثقل على نفسه.  لقد درست من خلال برنامج الماجستير في كلية الصيدلة "المعايرات الإحيائية للأدوية ستاندردايزيشن" و"علم تأثيرات الأدوية الفاماكولوجى"، ودرست في كلية العلوم "الفسيولوجي المقارن كومباراتيف فسيولوجى".  في الحقيقة كان ذلك الأستاذ العظيم يقذف بنا في أتون العلم إن جاز التعبير.  ولكنه قبل أن يقذف بنا كان يرينا من نفسه العجب.  فلم يكن يقذف بنا في المحيط العميق المتلاطم إلا بعد أن يشهدنا على أنه كان يغوص في أعماق ذلك المحيط.

 

لقد كنا تلاميذ ذلك العالم العامل نأخذ ممن حولنا ونعطى أكثر مما نأخذ.  كان على كثرة تلاميذه وتنوّع موضوعاتهم العلمية التي يبحثون فيها إلا أنه لم يكن يطالبهم بالقراءة والاطلاع بقدر ما كان يسبب لهم الحرج من كثرة اطلاعه.  لم يكن أحدا منا يستطيع أن يسبقه إلى معلومة مطلقا.  مهما كان تلاميذه مجتهدون ومبادرون في القراءة والاطلاع، فإنهم كانوا يجدوه قد سبقهم إلى ما يظنون أنهم قد سبقوه إليه، وقد ترك تعليقاته عليه بالقلم الرصاص الخفيف!!!

 

بمجرد تخرجي- وأنا مستمر في وظيفتي في شركة مضارب أرز القبارى- بدأ الدكتور أحمد الشاذلي في اشراكى معه في المشاريع البحثية العلمية بجانب دراستي للماجستير.  عندما أتذكر عملي معه في المشروعات البحثية الآن وأنا أستاذ أدرك كم كان ذلك الرجل فذا وعالما وكم سبق عصره!  أقول ببساطة أنه كان قد سبق عصره في ذلك الوقت بما لا يقل عن أربعين سنة!  ففي الوقت الذي كان أقرانه مشغولون ومبهورون ومفتونون بالمبيدات الكيميائية الحشرية ويجرون  فيها البحوث على قدم وساق، كان الدكتور أحمد الشاذلي مشغولا ومهموما بدراسة التأثيرات السامة للنباتات على الحشرات واستخلاص المواد الفعالة من النباتات.  كان الجميع ينظرون باستغراب وامتعاض لتلك الأبحاث والمشروعات البحثية.  كان أشبه بسيدنا نوح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم.  كان نوح عليه السلام يصنع الفلك على أرض صحراء جرداء لا علاقة لها ببحار ولا أنهار وكان قومه كلما مروا به يسخرون منه!

"وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ" (سورة هود: آية 38)

كان الجميع مفتونون بالمبيدات الكيميائية المصنعة ويرون فيها الحلول السحرية لمشكلات الآفات الحشرية فى الزراعة وفى غير الزراعة.  وكان العملاق ثاقب النظر وبعيد النظر أحمد الشاذلي يرى الحلول فيما تنتجه الطبيعة.

 

لقد بدأ الدكتور أحمد الشاذلي مبكرا جدا منذ عام 1962 في البحث في المستخلصات النباتية وموادها الفعالة في مكافحة الحشرات. كانوا يسخرون منه ولا يبالى.  الآن ومنذ نحو عقدين من الزمان أدرك العلماء مخاطر المبيدات الكيميائية المصنعة على الإنسان وعلى البيئة وأدركوا كم تعانى البشرية من الإسراف في استخدامها.  تسممات وفشل كلوي وفشل كبدي وسرطانات.  أدرك العلماء منذ أكثر من ثلاثة عقود كيف أنّ الحشرات قد اكتسبت تحملا للمبيدات والذي يتطور سريعا إلى مقاومة للمبيدات!

ذلك ما يدفع العلماء إلى اللهث وراء استنباط مبيدات جديدة تكلف الشركات مليارات الدولارات والتي تحمّلها على أثمان المبيدات.  الآن ومنذ نحو عقدين من الزمان أخذ العلماء والباحثون وشركات المبيدات يلهثون ويتلمسون الحلول في المواد الفعالة في النباتات!!!

كم كنت بعيد النظر وكم كانت نظرتك ثاقبة يا دكتور أحمد الشاذلي؟ رحمك الله يا دكتور أحمد الشاذلي وجعل الجنة مثواك.

 

كانت مشاريعه البحثية ورسائل الماجستير والدكتوراه التي يشرف عليها تهدف إلى حل مشكلاتنا بأبسط وأرخص وأسرع وأنجع الطرق.  في أحد رسائل الماجستير التي أشرف عليها تم اكتشاف طور جديد لأول مرة في العالم في حياة حشرة تربس القطن الماصة لعصارة النباتات.  ولكي تتصور دقة ذلك الاكتشاف أخبرك بأن طول تلك الحشرة 5و2 ملليمتر.  أنجز مشروعا بحثيا عن مكافحة دودة ورق القطن بمحاليل البلاستيك.  كنا نعامل أوراق القطن برشها بمحاليل بلاستيك مخففة فتأكلها دودة ورق القطن فتؤدى إلى اضطرابات في تطورها وإنتاج أفراد مشوهة غير قادرة على التناسل والاستمرار في دورة الحياة.  اشتركت معه في مشروع بحثي آخر عن مكافحة الحشرات بالمصائد الضوئية في أوائل السبعينات.  ابتكر مصيدة ضوئية لاصطياد وجذب الحشرات وقتلها وتغيّر الحاوية التي تتلقى فيها الحشرات تلقائيا كل ساعتين.  كان هدفها جمع وقتل الحشرات بالضوء ودراسة أوقات نشاطاتها طوال الليل وحصر الحشرات في المنطقة التي توضع فيها واكتشاف أنواع لم تكن معروفة. عدة عصافير بحجر واحد.  لم نكن نستطيع متابعة ملايين الحشرات التي كانت تصطادها المصيدة كل ليلة.  كانت تحتاج إلى فريق هائل لمتابعة نتائج عمل المصيدة!

 

إن كل تلك المشروعات البحثية الاقتصادية الهادفة هي على سبيل المثال لا الحصر والتي كان يقوم بها الأستاذ الدكتور أحمد الشاذلي، في الوقت الذي كان الجميع مشغولون بالمبيدات الحشرية الكيميائية.  ولكن الأدهى من ذلك كانت أخلاقيات الدكتور أحمد الشاذلي في تلك المشروعات البحثية.  فما بالكم بأستاذ جامعي يحصل على تمويل ألف جنيه (فقط ألف جنيه) من وزارة الزراعة لإجراء مشروع بحثي وتكون فيه مكافأته ثمانية جنيهات ومكافأتي ثلاثة جنيهات عام 1972، ثم ينجز مشروع المصيدة الضوئية العظيمة الهائلة بأقل ما يمكن من تكاليف ويعيد بقية ميزانية المشروع إلى وزارة الزراعة!!!  إتقان للعمل، وقناعة وتواضع في الرزق، وأمانة منقطعة النظير، واقتصاد في الإنفاق، وصدق في القول وفى العمل، ونتائج علمية واقتصادية مبهرة، كان ذلك منهاج العملاق الدكتور أحمد الشاذلي رحمه الله.

 

كان الدكتور أحمد الشاذلي دائم الاطلاع في العلم وفى غير العلم. كان عالما فذا في تخصصه وكان واسع الثقافة. لم يكن يمل القراءة ولم يكن يضيع وقتا حتى أنه كان يقرأ أثناء سيره في الطريق. كان يحفظ القرآن الكريم ويردده أثناء سيره في الطريق.  كان رحمه الله رجلا موسرا وكان يستطيع أن يأكل بملعقة من الذهب، ولكنه كان بسيطا كل البساطة.  كان لديه ورشة للنجارة يصنّع فيها أثاث مبتكر اقتصادي متعدد الأغراض من تصميماته التي تذهل.  ولكنني أقول أنه كان يمسك أدوات النجارة بيد والكتاب باليد الأخرى. عين على النجارة وعين على الكتاب في نفس الوقت.  كان هذا منهجه حتى مع أولاده.  لم يكن يركن إلى العلم فقط ولكنه كان صاحب صنعة.  وعلم أولاده العلم وعلمهم الصنعة.  كان ابنه الأكبر منير (طبيب كبير في أمريكا الآن) كان طالبا في كلية الطب وكان يجلب له معلما في الالكترونيات في نفس الوقت يعلمه صنعة الالكترونيات معنا في المعمل.  كان ابنه الأصغر محمد (مهندس عظيم في أمريكا الآن) كان طالبا في كلية الهندسة ومع ذلك كان يتعلم صنعة لحام إطارات السيارات في إحدى الورش.  شقيقتهم الصغرى الآن أستاذة مرموقة في كلية طب الأسنان بجامعة الإسكندرية.  لم يكن الرجل يعرف المستحيل.  لقد سبق عصره أيضا في تعليم أولاده الصنعة.  اليوم في مصر يعلمون خريجي الجامعة الصناعات في دورات تدريبية منظمة ويتهافت عليها الخريجون، ولكن في زمن الدكتور منير والدكتور محمد لم يكن الشباب الجامعي يستسيغ مثل ذلك!  أتذكر في ذلك المقام أيضا قصة سيدنا نوح وصناعة الفلك في الصحراء وسخرية القوم منه.

 

كان الدكتور أحمد قويا في الحق ومقاتلا عنيدا وذو شخصية جبارة ومع ذلك فقد كان في غاية التواضع والأدب.  كان بالطبع يتقن اللغة الانجليزية ونحن للأسف ننجز الماجستير والدكتوراه بالانجليزية.  ولكن رأى الدكتور أحمد وهو في الخمسين من عمره أن يتعلم اللغة الفرنسية.  من المدهش أن يعلم ذلك الرجل نفسه اللغة الفرنسية بنفسه وعلى السبورة في المعمل ويتقنها في زمن قياسي.  والمذهل أن يتقن اللغة لدرجة أن ينجز بها رسائل ماجستير ودكتوراه في الجزائر حيث سافر الجزائر ومكث فيها أكثر من 10 سنوات كان يدرس فيها باللغة الفرنسية التي كان قد تعلمها حديثا!

 

في مضمار الرياضة كان للدكتور أحمد الشاذلي باعا طويلا.  فقد كان خيّالا وفارسا مغوارا، وكان رائد الفروسية في الجامعة لسنوات طويلة، كما كان سباحا ماهرا.  كان يظل يسبح بالساعات في حوض السباحة في الكلية من بعد صلاة العصر إلى المغرب ثم يخرج من حوض السباحة ليتناول تلاميذه في الماجستير والدكتوراه وأبحاثه ومشاريعه البحثية إلى وقت متأخر من الليل.  كان رجلا كاملا ومتكاملا ذلك العالم العملاق العنيد.

 

لم يكن الرجل يعرف المستحيل لا مع نفسه ولا مع أولاده ولا مع تلاميذه.  كنت أقوم بتدريس الدروس العملية في فسيولوجيا الحشرات وهو أستاذها.  لم أذكر يوما أنني طلبت منه تذليل عقبة من العقبات ولم أشعره يوما بعجز عن فعل أي أمر من الأمور وانجازه.  كنت أوفر كل الإمكانات بطريقتي الخاصة حتى أنني كنت أتواصل حتى مع كليات جامعة القاهرة وغيرها وأتبادل معهم المواد الكيميائية وأوفر لعملي التدريسي ولبحثي كل الإمكانات دون إزعاجه فهو لم يكن يعرف ولا أنا كنت أعرف المستحيل.  ولكن من المضحك أن يشكو له أحد طلبته في الماجستير من عدم تمكنه من الحصول على مادة كبريتات الحديدوز، فلا ينظر إليه الدكتور أحمد الشاذلي وإنما وجه نظره إلى لا شيء قائلا: "هات شوية مسامير مع حامض كبريتيك واصنع منهم كبريتات حديدوز"!!!  ولقد خجل الطالب من نفسه واستطاع الحصول على المادة بالسعي الجاد.  لقد كان شديدا مع نفسه أولا ومع أولاده ومع تلاميذه. انه بالفعل لم يكن يعرف المستحيل.  لم يكن من نهجه إلقاء عبارات الثناء والمديح على أولاده ولا على تلاميذه وان كان سعيدا بهم.  فلم أسمع منه كلمة "فيرى جود" إلا المرة الأولى والأخيرة عند أول لقاء في معمل الطلاب عندما كان عمري 17 عاما.  ومع ذلك فقد كانت علاقته حميمة مع تلاميذه وكنا نتفاخر ونشعر بالزهو لأننا تلاميذ ومن مدرسة الدكتور أحمد الشاذلي.  لم يبد إعجابه مرة واحدة بأدائي برغم الحب والود والاحترام الذي كان بيني وبينه.  وبرغم كل الحب والود والاحترام وبرغم اننى كنت أعامله كأبى إلا أننا كنا نتعامل كرجل لرجل.  كنت على وشك إنهاء الدكتوراه تحت إشرافه لولا استدعاء القوات المسلحة المتكررة المتلاحقة بعد حرب أكتوبر التي دفعتني للسفر للتحضير للدكتوراه من جديد في سلوفينيا.  وعندما عدت من البعثة أخذ نسخة من الدكتوراه وقرأها وأبدى سعادة غامرة بالموضوع وقد اعتبرت ذلك جائزة كبرى.

 

ظل الدكتور أحمد الشاذلي يجاهد ويدافع عن الحق والسمو بالمنهج العلمي منذ عرفته حتى آخر اجتماع ضمنا في مجلس القسم قبل أن يبتليه ربه بمرض سرطان العظام شديد الألم.

وكعادته كان أسدا حتى فى المرض الذي أدعو الله تبارك وتعالى أن يكون كفارة له وطهورا.  كنت في ذلك الوقت- منذ ثلاث سنوات- قد أتممت الإشراف على رسالة ماجستير عن تأثير عصير الثوم على تناسل حشرة دودة ورق القطن حيث حصلنا- أنا وتلميذتي ابنتي المهندسة دينا عبد الحميد- على نتائج مذهلة.  فقد كان عصير الثوم يقضى تماما وبنسبة 100%على المقدرة التناسلية لفراشات دودة ورق القطن.  كنت أزور الدكتور أحمد في المستشفى وهو على فراش المرض وقلت له يوما لاعطاءه الأمل اننى أطمع أن يناقش تلك الرسالة ولخصت له نتائجها.  عقب ذلك العالم العملاق على تلك النتائج وهو تحت تأثير مخدّر المورفين قائلا: "لقد خلق الله الطبيعة وجعل فيها الحلول لمشاكلها".  بعد أسبوع صعدت روح العالم الفذ العملاق الطاهرة إلى بارئها بعد عمر يناهز 85 عاما قضاها من جهاد إلى جهاد.

 

عفوا، لقد نسيت أن أقول لكم أنّ ذلك العالم العملاق كان ابن عم الفريق سعد الدين الشاذلي البطل الفذ وعملاق وقائد حرب أكتوبر 1973، رحمهما الله وجعل الجنة مثواهما.  لا أنسى مطلقا أنني عندما نزلت من جبهة القتال، بعد فض الاشتباك الأول بيننا وبين العدو الصهيوني الخسيس، في إجازة خاطفة مدتها 36 ساعة كيف استقبلني ذلك الأستاذ الحبيب بالفرح، وكيف أصر على الاحتفال بى في المعمل فقلت له أن الوقت ضيق للغاية وأنني بصدد المرور على أسر وأهالي جنودي لأطمئنهم على أبنائهم في الجبهة.  أصرّ الرجل على حفل قصير قرأ فيه القرآن ودعي إليه الأساتذة والزملاء وألقيت الكلمات قبل أن أعود إلى الجبهة في نفس اليوم.  وكان في المعمل أخي وصديقي الحبيب الشقيق السوداني نبيل حامد حسن بشير، وكان زميلي في المعمل يحضر الماجستير تحت إشراف الدكتور أحمد الشاذلي في ذلك الوقت، وهو الآن أستاذ كيمياء مبيدات الآفات في جامعة الجزيرة بالسودان.

 

 

  لم يكن الدكتور أحمد الشاذلي أستاذي فحسب ولكنه كان أبى وصديقي.  اننى أدعو له يوميا مع دعائي لأبى وأمي بالرحمة والمغفرة.  أدعو له دائما أن يبارك الله له في حسناته ويتجاوز عن سيئاته ويجعله في أصحاب الجنة.  أدعو له بأن يكون قبره روضة من رياض الجنة. أدعو له بأن يمتعه الله بنعيم القبر.  أدعو له بأن يباعد الله بينه وبين خطاياه كما باعد بين المشرق والمغرب، وأن يغسله من خطاياه بالماء والثلج والبرد.  أدعو له بأن يحشره الله وأبى وأمي مع النبيين والصالحين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.  أدعو له أن يجازيه الله خيرا عن العلم النافع وعن أبنائه وعنى وعن تلاميذه وعن كليته وعن جامعته وعن وطنه، وأن يعوضنا الله فيه خيرا. أدعو الله أن يبارك في ذريته حيثما كانوا ووقتما يكونون.

 

 

محمد هاشم عبد الباري

8 ربيع آخر 1433

1 مارس 2012

 

 

 

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                          

 

 

 

الخميس، 1 مارس 2012

ولو اجتمعوا له/ ذباب القنابل 2-2 / أ.د محمد هاشم عبد البارى

بسم الله الرحمن الرحيم

 

"وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ  "

 

ذباب القنابل

 2/2

الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد الباري

7777777

 

 

نغف معدة الخيل Gastrophilus intestinalis

الذبابة الكاملة لونها يميل إلى البني مشعرة قوية غليظة ونحو ثلثي بوصة في الطول.  تشبه ظاهريا نحل العسل باستثناء أنها لها زوج واحد فقط من الأجنحة.  أجنحتها لها بقع مدخنة باهتة.  يرقاتها كاملة النمو "الدود" تصل من 13 -17 مم في الطول مثل نواة ثمرة الزيتون الكبيرة.  جلدها أصفر مبيضّ إلى قرنفلي خشن.  وهى حادة عند الطرف الخلفي ومستديرة عند الطرف الأمامي الذي يحمل زوج من أجزاء الفم تشبه الخطاطيف.  كل حلقة من حلقات الجسم تحاط بحلقة من الأشواك القوية.

وهناك أنواع عديدة أخرى من النغف على الخيل منها ذبابة نغف الذقن أو ذبابة نغف الحلق "جاستروفيلاس نازاليس Gastrophilus nasalis " ونغف الشفاه أو نغف الأنف "جاستروفيلاس هيمورّويداليس "Gastrophilus haemorrhoidalis  وهى يمكن التعرف عليها إلى حدّ ما من شكل البيض.

 

 

يرقات نغف معدة الخيل المسلحة بالأشواك عالقة بأنسجة معدة الحصان من الداخل

 

 

دورة الحياة

تنمو اليرقات في القناة الهضمية للحصان العائل خلال الشتاء.  وفى أواخر الشتاء وبداية الربيع تخرج اليرقات الكاملة النمو في روث الخيل.  ومنها تحفر في التربة وتصنع جلد العذراء من جلد انسلاخ اليرقة الأخير.  تتحول إلى ذبابات يافعة داخل جلود العذارى وتفسق منها الذبابات اليافعة في 3-10 أسابيع.  الذبابات اليافعة تخرج تباعا وهى نشطة منذ منتصف الصيف إلى الخريف.  الذبابات الاناث تلصق بيضها على شعر الخيول ويتم ذلك عمليا على الأرجل الأمامية ولكن يمكن أيضا أن تبيض على بطن الحيوان وعلى أكتافه وعلى أرجله الخلفية.  يفقس البيض في 10-14 يوم بالمحفزات الملائمة من الرطوبة والحرارة والاحتكاكات التي يسببها الحصان الذي يلحس ويلعق ويعضّ الشعر المصاب بالبيض.  يرقة العمر الأول الفاقسة الضئيلة تدخل الفم وتحفر داخل اللسان لمدة 28 يوما تقريبا قبل أن تنسلخ إلى العمر الثاني، ثم ترحل يرقة العمر الثاني إلى المعدة حيث تبقى 9-10 شهور وتنمو وتنسلخ إلى العمر الثالث بعد نحو 5 أسابيع.  الحشرة لها جيل واحدة في السنة، والجيل يحسب من وضع البيض إلى خروج الحشرات اليافعة.

 

 

يرقة نغف معدة الخيل

 

الديدان (اليرقات) لها خطاطيف فميّة والتي تمشّط بها نسيج المعدة في القناة الهضمية فتسبب ألما شديدا للحيوان وفقد الشهية والضعف والهزال.  الذبابات الكاملة ليس لها أجزاء فم.

إنّ الخيل والبغال والحمير هي العوائل الرئيسية لذباب نغف معدة الخيل.  الذبابات الكاملة الإناث في محاولاتها لوضع البيض على الحيوان العائل تسبب جفول الخيول التي تقاوم هجمات الذبابات - التي تحوم وترفرف وتطن وتهجم- مما يؤدى إلى خسائر في الحيوانات بقدر الله.  اليرقات تعيش في القناة الهضمية وتؤذى اللسان والشفاه وبطانة المعدة والأمعاء لأنها تحفر فيها وتعلق بها بأشواكها التي على حلقات الجسم.  إنها تتغذى على نواتج الالتهاب التي ينتجها الحيوان العائل كرد فعل لوجود تلك اليرقات بأشواكها وخطاطيفها.  الإصابات تسبب ضررا ميكانيكا وظروف تقرحات ملوثة تأخذ في تجويع الحيوان العائل لفقده لشهيته للأكل لشعوره بالألم.

الذبابة اليافعة لا تستطيع العضّ أو اللسع وغير ضارة للإنسان ولا للحيوان بالرغم من أنّ الخيول تقاوم بالجفول والهرب عند محاولة وضع الإناث للبيض.  اليرقات "أو الديدان"تتغذى داخليا في القناة الهضمية للخيول.

 

 

ذبابة نغف الانسان Dermatobia hominis

تحتاج ذبابة نغف الإنسان "ديرماتوبيا هومينيس" إلى عائل من ذوات الدم الحار ليرقاتها لتنمو عليه وتترعرع.  ولكن البشر غالبا لا يكونوا هم العوائل المقصودة لتلك الديدان الكبيرة.

ذباب نغف الإنسان هو أحد ذبابات نغف الجلد.  وهى الحشرات الكريهة التي تبتغى عائلا حيّا دافئ الدم لتستكمل طورها اليرقى عليه!  واليرقات الكبيرة لذلك النوع تعيش مباشرة تحت الجلد وتتغذى على أنسجة العائل وسوائله حتى تكون مستعدة للتحول إلى خادرات.

 

الذبابة اليافعة "ديرماتوبيا هومينيس" هي نغف كبير الحجم طولها 15-18مم ، لها وجه مصفر، وأرجل برتقالية، وصدرظهره أسود مزرق، وبطنها زرقاء معدنية.

إن ذبابة نغف الإنسان من حشرات الغابات.  وهى آفة لأمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية اعتبارا من جنوب المكسيك.  وبالرغم من أنّ ذبابة نغف الإنسان تصيب الماشية أكثر بكثير مما تصيب الإنسان وأنّ الناس الذين يعيشون ويعملون بالقرب من الماشية يتعرضون لأكثر المخاطر إلا أنه ليس من غير الشائع للسائحين من أمريكا الشمالية وأجزاء العالم الأخرى إحراز القليل من اليرقات بينما هم يمرحون ويتمتعون في إجازاتهم!

 

كيف تصيبك (لا قدّر الله) يرقات نغف الإنسان؟

إن أنثى ذبابة نغف الإنسان "ديرماتوبيا هومينيس" لها طريقة خطيرة لوضع بيضها.  هي نفسها ليست ماصة للدماء في الحقيقة بل إنها لا تتغذى مطلقا.  ولكنها تقتنص حشرة ماصة للدماء من نوع آخر مختلف وتضع بيضها وتلصقه إلى بطن تلك الحشرة الأسيرة قبل فك أسرها وإطلاقها، ومن المناسب إن توزع بيضها على حشرات مختلفة ماصة للدماء.  وفيما بعد عندما تلدغ تلك الحشرات الماصة للدماء والناقلة للبيض إنسانا أو حيوانا حار الدماء فان البيض يفقس وتخرج اليرقات.  إنّ هذه الذبابات لا تضع بيضها على أي بعوض، إنها تضعه وتلصقه على جسم بعوض نهاري الطيران!  إنها تستغل أكثر من 48 نوعا من الحشرات الأخرى من البعوض والذباب الأسود والذباب المنزلي وذباب الظباء (الماص لدماء الحيوانات والخيول) وغيرها ونوع واحد من القراد (حيوان عنكبوتي ماص لدماء الحيوانات).  إنها تلصق بيضها بتلك المخلوقات بحيث توجه قمة البيض إلى أسفل، وعندما يحتك البعوض بالعائل الأساسي من الحيوان أو الإنسان تكون اليرقات قادرة على الفقس في الحال وتكون في الوضع الأمثل للالتصاق بالعائل.  وعندما تبدأ البعوضة في التغذية على العائل من الحيوان أو الإنسان بامتصاص الدم يفقس بيض ذباب نغف الإنسان المحمول على البعوض ويخترق جلد العائل.

 

 

ذبابة منزلية تحمل كتلة بيض (البيضاء) لذبابة نغف الإنسان على بطنها تحت الأجنحة

 

وخلال ساعة واحدة من فقس البيض فان يرقات "ديرماتوبيا هومينيس" تخترق جلد العائل إما من خلال ثقب جرح امتصاص الدماء (مكان عضة الحشرة الماصة للدماء) أو حتى من خلال الجلد السليم فهي قادرة على ذلك.  إنها لا ترحل في الحال بعد دخولها ولكن تصنع تجويفا صغيرا تحت الجلد تستريح فيه وتتغذى وله فتحة ضئيلة إلى الهواء الطلق.  تنمو اليرقات إلى أحجام أكبر على مدى فترة تصل إلى 6 أسابيع.

 

كيف يبدو ضرر نغف الإنسان؟

في البداية أغلب الناس لا يكونوا مدركين بأنهم قد أصيبوا بديدان نغف الإنسان تحت جلودهم.  ولأن اليرقات تكون بالقرب من مكان عضة الحشرة الماصة للدماء الناقلة للبيض لذلك يختلط الأمر على المصاب في الضرر الحادث في البداية وتلك الأشياء التي تصبح أكثر إزعاجا لعدة أسابيع أو أكثر.  الديدان النامية على كل حال تسبب أخيرا تورما مؤلما وحكة قد يختلط عليه الأمر إن كانت من سائل مغلي أو من عضة ذبابة ملوثة.

 

 

ذبابة نغف الإنسان بعد خروجها من الجلد عن طريق الثقب

 

تنمو دودة نغف الإنسان إلى 18-24 ملليمتر في الطول تحت الجلد!  ولها عدة حلقات أو شرائط من الخطيفات (تصغير خطاطيف) حول حلقات الجسم التي تمسكها وتثبتها في مكانها.  وبالقرب من سطح الجلد يوجد طرفها الذيلى الطويل الرفيع والذي يتوجه إلى الفتحة الضئيلة والتي تسمح له بالتنفس. هذه الفتحة والثغور التنفسية للدودة تكون مرئية للمراقب الدقيق.

 

إنّ أحد علماء الحشرات سمح ليرقتين من ذباب نغف الإنسان لدخول جلده وكتب التقرير التالي: "لقد سمحت ليرقتين بالحفر في جلد ذراعي، اليرقة الأولى استغرقت 42 دقيقة واليرقة الثانية احتاجت ساعة وخمس وثلاثين دقيقة لاختراق الجلد.  لم أشعر بأي إحساس في أغلب ذلك الوقت، ولكن بمجرد اختفاء اليرقتان تحت الجلد شعرت بوخز حاد.  في البداية كان هناك أكلان حادّ ليلا، ولكن خلال أيام قليلة نمى موضع الضرر والذي كان أشبه بلسع ماء مغلي.  وبنهاية 3 أسابيع كان الألم يشكل عذابا.  بعد نحو 50 يوما خرجت اليرقتان الكبيرتان وسقطتا من جلدي.  لم يكن هناك ألم وقت خروجهما"

 

الناس غالبا يتلمّسون العلاج من الإصابة ويتناولون المضادات الحيوية وهو الاتجاه الذي لا يأتي بالإغاثة . 

وتخرج ديدان النغف أخيرا بنفسها ويشفى الضرر ويلتئم الثقب الذي خرجت منه. على أية حال إذا كانت اليرقة تم تمييزها والتعرف عليها فانه يمكن استئصالها بلطف بمشرط حاد.  العلاج الطبيعي يتضمن تغطية المنطقة المصابة بالفازلين لقطع هواء التنفس عن اليرقة ولإجبارها على الخروج.

وحديثا في عام 2002 أمكن للدكتور أندريا Andrea  ورفاقه بالمستشفى العام في تورنتو بكندا من استخدام آلة بسيطة للغاية ويمكن التخلص منها وغير مكلفة وهى محقن شفط سم الثعابين تشفط به اليرقة ويتم إخراجها من الثقب.

 

 

انه صراع أزليّ بيننا وبين الذباب ينتصر فيه دائما الذباب. إنّ ذباب القنابل (أو ذباب النغف) يتصارع معنا على ما نملكه من ثروات حيوانية. ولا يعنيه كثيرا أو قليلا أن يهاجمنا نحن ويسبب لنا التدويد كما يسببه لحيواناتنا. انه لا يعنيه كم ثمن الحصان الذي يصيبه (أحيانا عشرات الألوف من الدولارات أو ملايين الدولارات واسألوا أمراء الخليج وأثريائهم)، ولا يعنيه كم هو غال وعزيز على أصحابه ذلك القط أو الكلب الذي يدوّده، ولا يكترث لما يفسده من جلد الحيوان الذي يصبح لا قيمة له.  إنّ الجلد الطبيعي الآن باهظ الثمن، وإذا ثقّبته ديدان النغف فلن نستطيع الاستفادة منه.  إنّ هذا الذباب لا يبالى إن كانت الحيوانات التي نملكها ويدوّدها لنا إن كانت حيوانات صوف أو لحم أو لبن. انه يدمّر كل ذلك لنا في سبيل وضع بيضه والحفاظ على نسله انه متفان فى حياته ومخلص فى أداء واجباته. انه لا يضع بيضه إلا على أفضل بيئة تناسب نمو صغاره، ولكن البعض من بني الإنسان قد يتخلصون من أطفالهم بالبيع أو الإلقاء وسط القمامة.  إننا لا يجب أن نخجل من أخذ الدروس والعبر من الحشرات!

 

أرأيت كيف تتصرف تلك الذبابات الإناث ليصل بيضها إلى المكان الصحيح دون أن تخشى عليه؟  أرأيت كيف تتصرف تلك الذبابات بالحكمة وبالحيلة وبالمكر والدهاء؟  إن الحكمة ليست قاصرة على بني البشر أبدا.  عندما تجد إناث ذباب القنابل أو ذباب النغف ممانعة من الحيوان ومقدرة على تجنب بيضها فإنها ترسله إليه عن طريق ذبابة منزلية أو بعوضة لا يخاف منها كما يخاف من الذباب القنابل.  إنّ ذلك الذباب يعرف أنه ذباب مزعج ومروّع. وكثيرا ما لا يعرف الانسان أنه مزعج ومروّع، بل كثيرا ما يعجب الانسان أنه مزعج ومروّع!  ولكن الذباب يتصرف بحكمة.  أرأيت كيف تقتنص أنثى ذباب القنابل ذبابة منزلية أو بعوضة لتحمّلها بيضها وترسله إلى الحيوان أو الإنسان الضحية؟  أرأيت كيف أنها تعلم بأن الإنسان سوف يختلط عليه الأمر عندما تخترق الدودة جلده هل هي من عضة البعوضة أم أصابه ماء مغلي؟!

انه أمر عجيب يدعو إلى التأمل والدراسة!  من أين اكتسبت إناث الذباب القنابل تلك الحكمة وذلك الذكاء؟ انه الله، انه الله تبارك وتعالى. الله الذي علم الهدهد وعلم الغراب وعلم النملة. إن تلك الحكمة وذلك الذكاء الذي اكتشف عام 2003 بواسطة علماء الحشرات إنما هو موجود وكائن في تلك الأنواع منذ عشرات الملايين من السنين.  أي قبل أن يعلم الله آدم الأسماء كلها.

ويضرب الله المثل بالذباب في الضعف والمهانة.

 

أرأيت كيف يسلب الذباب الإنسان ما يملكه من ثروة حيوانية؟ أرأيت كم يضيع من الإنسان من لحوم وألبان وجلود وأصواف بسبب الذباب؟  أرأيت كيف لا يستطيع الإنسان أن يستنقذ ما يضيع من ذلك من الذباب؟  الذباب، تذكر الذباب، تذكر الذباب وتذكر عناد الذباب وتذكر إصرار الذباب وتذكر مثابرة وصبر الذباب وتذكر مكر وفطنة وحكمة وذكاء الذباب، وتذكر كم من البشر يفتقرون إلى الصبر والى المثابرة في السعي إلى الرزق وفى السعي إلى النجاح والوصول إلى أهدافهم،  وتذكر كم من البشر يفتقرون إلى الحكمة والى حسن التصرف.  ولكن تذكر في نفس الوقت أن الإنسان مهما بلغ ذكائه ومهما بلغت حكمته ومهما بلغت قوته ومهما بلغ علمه ولو اجتمع كل أصحاب نوبل ولو كان في العالم ستة مليارات من الحاصلين على نوبل ليسوا فقط غير قادرين على أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ولكنهم لن يستطيعوا كشف كل أسرار الذباب إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.  إنّ ذلك لا يقتصر على الذباب فحسب ولكنه أمر عام على كل مخلوقات الله عزّ وجل كبيرها وصغيرها قويّها وضعيفها.  فلا تنسى كلام رب العالمين:

 

 

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ"

(سورة الحج: آية 73)

 

 

محمد هاشم عبد الباري

24 فبراير 2012 م

الثاني من ربيع آخر 1433 ه

 

ولو اجتمعوا له/ ذباب القنابل 1-2 / أ.د محمد هاشم عبد البارى

بسم الله الرحمن الرحيم

 

"وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ  "

 

ذباب القنابل

 1/2

الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد الباري

7777777

 

نعم، فهو ذباب غليظ ثقيل مخيف قوى الطيران له طنين وأزيز مروّع مثل صفير القنابل التي تسقطها الطائرات ومع ذلك فهو لا يعضّ ولا يلسع ولا حتى يتغذى أصلا.

إن اسم ذباب القنابل يطلق على حشرات الذباب اليافعة التي تصيب الماشية بالتدويد، حيث تقتلع الديدان من تحت جلد الماشية من خلال النبش.  إننا لا نزال نتكلم عن التدويد.  ولقد أخذ ذلك الذباب تسميته بالقنابل لأنّ ذباباته من الإناث تهجم كالقنابل بجسمها الكبير الثقيل على الماشية لتضع عليها بيضها فتسبب ذعرا لها وتجفل الماشية أو الخيل وتتسبب لها الحوادث، وربما تسقط في ترعة أو مصرف أو تصطدم بجدار وتنكسر أو تقتل فتسبب الخسائر.

تسمى كذلك بالذباب النافخ  warble fly  وهى أي نوع من الذباب من أنواع ذباب عائلة "هيبوديرماتيدى  "Hypodermatidae  أو عائلة "أوستريدى  "Oestridae  حيث تسبب يرقاتها انتفاخات تحت جلد الحيوان أو الإنسان، والتي تسمى أيضا بذباب "النغف  "Bot fly  والواسعة الانتشار في أوروبا وأمريكا الشمالية، ولكنها موجودة أيضا في بلادنا.

 

 

ذبابة القنابل(ذبابة الكعب): ذبابة نغف جلد البقر "هيبوديرما بوفيس"

 

  الذبابات النافخة التي تسمى "هيبوديرما لينياتم  "Hypoderma lineatum  و"هيبوديرما بوفيس  "Hypoderma bovis  تسمى أيضا بيرقات الماشية أو ذباب الكعب لأنها تضع بيضها على كعوب أرجل الماشية، وهى ذبابات كبيرة وثقيلة وتشبه النحل في مظهرها.  تضع بيضها على أرجل الماشية، وتخترق اليرقات جلد الماشية وتهاجر خلال الجسم، ثم تستقر تحت الجلد على ظهر الحيوان، وتنتج تجمعات من الانتفاخات الجلدية على ظهر الحيوان حول عموده الفقري. اليرقات الناضجة تخرج من تلك الانتفاخات وتسقط على الأرض لتتحول إلى خادرات (عذارى). الانتفاخات التي تحت الجلد لها فتحات لخارج الجلد الحي لتتنفس اليرقات الهواء الطلق من خلالها، مما يؤدى الى ثقب الجلد الحي فتخفض القيمة التجارية للجلد الناتج من الحيوان.  وهناك نوع آخر يسمى "اوديماجينا تاراندى  "Oedemagena tarandi  يعتبر من أفات غزال الرّنة والذي يسبب أيضا خسائر اقتصادية كبيرة.

 

وكلمة "ذباب النغف  "Botfly هي أيّ نوع من الذباب في عائلة ذباب "أوستريدى "Oestridae  . إنّ دورة حياة أنواع ذلك النغف تختلف اختلافا عظيما تبعا للنوع، ولكنّ يرقات كل الأنواع هي طفيليات داخلية للثدييات.  وتختلف أسمائها الشائعة المعروفة باختلاف المناطق فبعض المناطق من العالم تسميها الذباب النافخ  warbleflies   ، والبعض الآخر يطلق عليها ذباب الكعب      heetflies  وغيرها تسميها ذباب الماشية أو تسمى الذباب المزعج gadflies ، ونحن نعرفها ونطلق عليها ذباب النغف.  يرقات بعض الأنواع تنمو وتعيش في لحم عوائلها، بينما أنواع أخرى تنمو وتعيش داخل القناة الهضمية للحيوان العائل.  ذبابة نغف الإنسان "ديرماتوبيا هيومينيس  "Dermatobia hominis  هي النوع الوحيد من ذباب النغف المعروف الذي يستعمل الإنسان بصفة نمطية كعائل ليرقاته،  وذلك بالرغم من أنه ليس النوع الوحيد ولا الأكثر ضررا والذي يسبب التدويد في البشر.

 

وتعرف عائلة ذباب النغف "أوستريدى" بأنها تضم العائلات التي كانت تسمى "أوستريدى"، و "كوتربريدى" و "جاستروفيليدى" و"هيبوديرماتيدى" والتي أصبحت الآن تحت عائلات أو عائلات فرعية لعائلة ذباب النغف.

ومن ناحية أخرى فان عائلة النغف "أوستريدى" هي إحدى عائلات فوق عائلة "اوسترويدى "Oestroidae  جنبا إلى جنب مع عائلات "كالليفوريدى", و "رينوفوريدى" و"ساركوفاجيدى" و"تاكينيدى".

 

ذلك لأنه من كثرة أنواع الحشرات المعروفة (أكثر من مليون نوع) فهى قسم إلى "أقسام"،  والأقسام تقسم إلى "رتب"، والرتب تقسم إلى "تحت رتب"، وتحت الرتب تقسم إلى "فوق عائلات"، وفوق العائلات تقسم إلى "عائلات"، والعائلات تقسم إلى "تحت عائلات"، وتحت العائلات تقسم إلى "أجناس" وتضم الأجناس "الأنواع". وهناك أقسام أكثر تفرعا يعرفها الحشريون ويتعارفون على الأنواع عالميا فيما بينهم!

 

ومن عائلات الذباب التي تسبب التدويد Myiasis  عائلة النغف "أوستريدى" التي تتضمن أعلى نسبة من الأنواع التي تعيش يرقاتها كطفيليات إجبارية داخل أجسام الحيوانات الثديية.  إنّ أغلب الأنواع الأخرى التي تميل إلى إحداث التدويد هي أعضاء في العائلات القريبة مثل "كالليفوريدى".  ويوجد تقريبا 150 نوعا معروفا من أنواع الذباب التي تحدث التدويد على نطاق العالم.

 

الإصابة

تضع إناث ذباب النغف يرقاتها على الحيوان العائل مباشرة أو أحيانا تمارس أعمال البلطجة فتستخدم ناقل وسيط أصغر منها حجما مثل الذبابة المنزلية أو حشرة ماصة للدماء مثل البعوض أو حتى أنواع من القراد.  الذبابة الأصغر أو البعوضة تقتنصها وتمسكها أنثى ذبابة النغف بقوة وتديرها إلى وضع تتمكن فيه ذبابة النغف من وضع نحو 30 بيضة على جسم الذبابة الصغيرة أو البعوضة تحت الأجنحة. الذبابة المنزلية أو البعوضة المسكينة الحاملة لبيض النغف والتى أصبحت رغم أنفها مثل طائرات النقل تكون دائمة الاتصال والاحتكاك بالحيوان.  يرقات ذلك البيض تنشط وتتحفز وتفقس بواسطة الدفء والاحتكاك بالحيوان الكبير العائل وتسقط من على الذبابة الصغيرة أو البعوضة الناقلة على جلد الحيوان وتحفر تحت جلده. الذباب المنزلي والبعوض العائل الناقل الوسيط غالبا ما يستعمل عندما تكون حيوانات العائل قادرة على تمييز ذباب النغف عندما اقترابه منها وتجفل وتنفر وتهرب منه!!  بعض أشكال ذباب النغف يصيب القناة الهضمية للحيوان بعد تناول الحيوان ذلك البيض أو اليرقات عن طريق لحس ولعق جلده الذي عليه البيض.

 

يمكن أن يتسبب التدويد بواسطة اليرقات التي تحفر في الجلد "أو النسيج المبطن" للحيوان العائل.  بعد تمام نمو يرقات النغف تحت جلد الحيوان أو بداخل معدته وأمعائه تسقط اليرقات كاملة النمو من جلد الحيوان العائل أو تمر مع روثه لتستكمل طور الخادرة في التربة.  إنهم لا يقتلون عوائلهم من الحيوانات، ولذلك فهم طفيليات حقيقية ولو أن بعض الأنواع من النغف الذي يصيب القوارض تستهلك مبايض وخصي الحيوان العائل.

 

 

ذباب نغف معدة الخيل يشكل مصاعب موسمية لمربّى الخيول.  فالذباب يضع البيض في المنطقة الداخلية لأرجل الحيوان الأمامية ومناطق التقاء العظام وركب الحيوان وأحيانا على الحنجرة أو الأنف اعتمادا على نوع النغف.  هذا البيض الذى يشبه قطرات صفراء صغيرة من الدهان (البوية)  يجب إزالته بعناية خلال موسم وضع الذباب للبيض في أواخر الصيف وفى أوائل الخريف لمنع إصابة الخيول.  عندما يفرك أو يحك الحصان أنفه على أرجله ينتقل البيض إلى فم الحيوان، ومن فمه إلى معدته حيثما تنمو اليرقات وتلصق نفسها بالنسيج المبطن للمعدة أو تمرّ إلى المعدة الصغيرة وتلتصق بها.  إنّ التصاق اليرقات بالأنسجة يسبب أكلانا بسيطا ينجم عنه تآكل وتقرحات في ذلك المكان.  إن إزالة البيض "الذي يلصق بشعر الحيوان"يعتبر أمرا صعبا، حيث أنّ عظام وأوتار الحيوان تكون تحت الجلد مباشرة على مناطق التقاء العظام فأى خدش فيها قد يؤذى الحيوان.  ويجب إزالة البيض بواسطة سكين حاد (غالبا شفرة حلاقة) أو ورق صنفرة خشن ويجب التمكن منه والتقاطه قبل أن يصل إلى الأرض.

 

 

تبقى اليرقات ملتصقة بمعدة الحصان وتنمو لمدة 10-12 شهرا قبل أن تمر للخارج مع روث الحصان.  و يلاحظ أصحاب الجياد يرقات النغف بالمصادفة في روث الحصان.  تلك اليرقات اسطوانية الشكل لونها محمرّ برتقالي.  تتحول تلك اليرقات إلى خادرات (عذارى) تحت التربة، وفى غضون شهر إلى شهرين تفسق ذبابات النغف من تلك الخادرات لتتزاوج وتضع البيض على الحيوان وتعيد دورة الحياة.  ويمكن مكافحة ذلك النغف بواسطة أشكال متعددة من المبيدات مثل مبيد "داى كلوروفوس "Dichlorovos  ومبيد "تراى كلورفون  "Trichlorfon وطارد الديدان"انفرميكتين  "Invermectin  .

 

من الأضرار المتسببة عن النغف في الماشية إمكان تلوث موضع وجود اليرقات تحت الجلد بالبكتريا "مانهايمبا جرانيولوماتيس "Mannheimia granulomatis  ، وهى البكتريا التي تسبب مرض ليشيجوانا  Lechiguana  الذي يتميّز بنمو سريع لحبيبات متصلبة متعددة تحت جلد الحيوان تزيد من آلام ومتاعب الحيوان.  وبدون مضادات حيوية فان الحيوان المصاب يموت في غضون 3-11 شهرا.

 

إن ذبابة نغف الإنسان تستخدم الإنسان بقدر الله كعائل ليرقاتها.  واليرقة بسبب أشواكها يمكن إن تحدث ألما مفرطا تحت الجلد.  عمليات الإزالة تتضمن وضع لحم خام على المنطقة والذي يستميل اليرقة للخروج.  وهناك خيار آخر هو استخدام عصارة شجرة "الماتا تورسالو Matatorsalo " الموجودة في كوستاريكا والتي تعرف بقتلها لليرقات، وهنا لا تزال اليرقات تحت الجلد.  ويمكن أن يحاول المرء غلق أو قفل فتحة التنفس التي أحدثتها اليرقة في جلد الحيوان العائل بالفازلين أو طلاء الأظافر، وبعد يوم يسحب اليرقة المختنقة الميتة للخارج.  ويمكن أن يفيد وضع الشريط اللاصق، ولكنه يحمل خطرا إضافيا للتلوث لأن أجزاء من أنبوب تنفس اليرقة يمكن أن يتكسّر بواسطة الشريط اللاصق، ويجعل من العسير إخراج بقية جسم اليرقة الميتة.

 

الإنسان يأكل ديدان النغف

في الأجواء الباردة التي يزدهر فيها نمو قطعان غزال الرّنة أو الآيل الكبير فان كميات كبيرة من يرقات نغف "هيبودرما تاراندى  "Hypoderma tarandi  تتوفر للإنسان في المسالخ خلال ذبح الحيوانات.  هذه اليرقات تعتبر مستساغة في العصر الحديث بواسطة السكان البيض كنوع من الترف والرفاهية الموسمية!  أنهم يتناولونها كطعام شهى مترف حيث تحتوى على مستويات عالية من البروتين والدهون والأملاح!

 

 

انتفاخات تحوى يرقات نغف الجلد تحت جلد الوعل بعد السلخ

 

 

مكافحة ذباب النغف

ذباب النغف (والذي يسمى محليا في باكستان "مهرو (Mehroo هو ذباب واسع الانتشار على الماشية والماعز على مناطق الهضاب وأشباه الهضاب في باكستان.  يرقات ذلك الذباب تسبب تثقيب الجلد في الحيوانات المصابة ينجم عنه خسائر فادحة في الصناعات الجلدية.  علاوة على ذلك فان خفض إنتاج اللبن وخفض اكتناز اللحم تعتبر ابتلاءات أخرى من ذلك التهديد.  الذبابة الأنثى تضع بيضها على جلد الحيوان، وبعد الفقس تخترق اليرقات الجلد من خلال أجربة الشعر، وتبدأ في رحلة هجرة في اتجاه ظهر الحيوان.  وخلال تلك الرحلة تنسلخ اليرقات من العمر ليرقى الأول إلى الثاني وأخيرا إلى العمر الثالث.  هذه اليرقات تحتشد أسفل جلد الحيوان وتكون عقد صغيرة تسمى "انتفاخات نبرية Warble ". اليرقات تصنع ثقوبا أو خروقا في الجلد للتنفس، وبعد تمام نموها تسقط على الأرض.  الذباب اليافع له أجزاء فم مضمحلة بمعنى أنه ليس له فم للتغذية، ويستمر في الحياة حتى 7 أيام إلى 10 أيام فقط  دون أن يتغذى.

 

أوضحت الدراسات أن نوع ذباب النغف في الماعز في باكستان هو "برزهيفالسكيانا سيليناس"، بينما النوع "هيبودرما لينياتام" يصيب الماشية والجاموس.  وبناء على الدراسات على بيولوجية ذلك الذباب فان مراسم المكافحة تتضمن حقنة مفردة من انفرميكتين Invermectin  الطارد والقاتل للديدان.  إنّ الدراسات الشاملة التى أجريت في مناطق مختلفة أكدت فعالية تلك الاستراتيجية للمكافحة.  تقنية تلك المكافحة تعتبر اقتصادية حيث أنّ العقار يعتبر فعالا ضد الطفيليات الخارجية وأغلب الطفيليات الداخلية للحيوان.  الاستعمال واسع الانتشار لتلك الإستراتيجية في المكافحة يمكن أيضا أن يحقق استئصال ذباب النغف من الدولة.

 

والى اللقاء فى الجزء الثاني 2/2

 

محمد هاشم عبد الباري

23 فبراير 2012 م

غرة ربيع الآخر 1433 ه