توفى إلى رحمة الله تعالى الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى يوم 5 يناير نسألكم الدعاء له بالرحمه والمغفرة

الجمعة، 30 نوفمبر 2012

الجزء3 - الله.. ثم الطبيعة والحرب والنفس والنصر / أ . د محمد هاشم عبد البارى

بسم الله الرحمن الرحيم

الله.. ثم الطبيعة والحرب والنفس والنصر

الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى

29 نوفمبر 2012م

^^^^^^^

الجزء الثالث

 

غزوة تبوك

وقعت غزوة تبوك في رجب التاسع للهجرة فى أعقاب فتح مكة.  كانت آخر غزوة خاضها  رسول الله صلى الله عليه وسلم.  لقد تسبب الروم فى احداث توترات مع القوات الإسلامية بقتل سفير رسول الله "الحارث بن عمير الأزدي".  ترتب على ذلك "معركة مؤتة" التي ألقت في قلوب العرب هيبة للمسلمين كقوة تناوىء الرومان.  لكن الآن وقد اختلف الوضع وأصبحت مكة في أيدي المسلمين وبدأ العرب يحالفونهم أفواجا وراء أفواج أصدر قيصر الروم أوامره باجتثاث تلك القوة المنافسة من جذورها لاعادة فرض سيطرته على جميع أرجاء المنطقة.  بدأ القيصر بجمع قواه وبناء جيشه المحلي من الرومان وجيشه الخارجي من الحلفاء العرب وعلى رأسهم وأقواهم آل غسان قتلة السفير الإسلامي. خرج ذلك الجيش الجرّار مستعداً بعدده وعتاده وقد بلغ الأربعين ألف مقاتل.  وصلت أخبار الروم إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في وقت صيف قحط أجدبت في الأرض واشتد فيه الحرّ وقلّ فيه المؤن والماء.  كان موقف المسلمين غاية فى الحرج.  لكنّ رسول الله لم يكن يملك حلاً سوى مواجهة الرومان رغم كل تلك التحديات التي كان يعيشها المسلمون.  أتى القرار الحاسم الذي لا رجعة فيه من القائد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج والزحف لمواجهة حشود الروم.  بدأ رسول الله بإبلاغ قبائل العرب المجاورة وأهل مكة لاستنفارهم على الجهاد وحثهم على الصدقات والدعم المادي للجيش الإسلامي.  نزلت آية من سورة التوبة توصي المسلمين بالقتال والصمود.

"قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ"

 (سورة التوبة: آية 14)

 

كانت ردة فعل المسلمين تجاه قرار رسول الله سريعة واضحة.  تدفقت القبائل والأفراد والمقاتلون الى المدينة.  أتى القاصى والدانى استعداداً لقتال الروم.  استهل الصدّيق أبو بكر رضى الله عنه بذل الصدقات لدعم القوات الاسلامية بقيادة رسول الله.  أتى اليه صلى الله عليه وسلم بكل ماله.  كان أربعة آلاف درهم.  تصدق عثمان بن عفان رضى الله عنه بالكثير.  ساق الى القائد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مائة بعير بمستلزماتها.  أتى بألف دينار وألقاها في حجر رسول الله ورسول الله يقول:

 "ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم"

 ولا يزال ذو النورين رضى الله عنه يتصدق.  بلغت صدقاته فى تلك الغزوة فى وقت الشدة مائة فرس وتسع مائة بعير فضلا عن الأموال.  نعم، لم يقف أثرياء العرب المسلمين مكتوفى الأيدى يتفرجون، ولا هم كانوا لاهون فى أموال المسلمين يبعثرونها على الملذات واقتناء اليخوت وينفقونها على نساء أوربا وروسيا وأوكرانيا.  لم يكن أثرياء المسلمين طعوما تتصيدهم نساء مخابرات العدو يغوونهم ويبتزونهم ويوسوسون لهم بالتنازلات المهينة المذلة.  لم يكونوا يكنزون أموال المسلمين فى بنوك الرومان ويقتّرون على اخوانهم من المسلمين ولا على الجهاد فى سبيل الله وفى سبيل نصرة اخوانهم فى الدين.  كلا، لقد كان المسلمون أغنياء وفقراء رجالاً ونساءً يقبلون على القائد رسول الله من كل حدب وصوب بما استطاعوا من كثير وقليل.

  خرج المسلمون من المدينة بعدد كبير.  لم يتخلف عن الخروج لقتال الروم مع رسول الله الا من كان أعمى أو أعرجا أو مريضا أو غير قادر على التجهيز للحرب لشدة فقره وعدم مقدرته على الحصول على دابة تحمله كل تلك المسافة.  كان كل هؤلاء تعذبهم أحوالهم التى حالت بينهم وبين قتال العدو فى سبيل الله فكانوا يبكون لحرمانهم من الجهاد.

"لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(*) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ"

(سورة التوبة: آية 92،91)

 

 ثلاثون ألف مقاتل فى ظروف الحرّ والقيظ والجدب والفقر والجوع والعطش لم يتخلف منهم إلا المنافقين وثلاثة من الصحابة تخلفوا بلا عذر فنزلت فى شأنهم آيات كريمات. استخلف رسول الله على المدينة "محمد بن مسلمة" وقيل "سباع بن عرفطة".  جعل علياً كرم الله وجهه خليفة على أهله.  سار جيش المسلمين قاصداً تبوك.  كان العدد كبيرا لم يألفه المسلمون من قبل.  ولكن المؤن والعتاد لم تكن تتناسب مع العدد الهائل.  لجأت قوات جيش المسلمين الى أكل أوراق الشجر من شدة الجوع حتى تورمت شفاههم. ذبحوا البعير ليشربون مما في بطونها من ماء من شدة العطش.  كان الأمر عسيرا على القوات الاسلامية.  المسافة بين المدينة وتبوك 680 كيلومترا بالطرق الممهدة السريعة اليوم.  لم تكن الطرق ممهدة ولم تكن الطرق مستقيمة.  لربما قطع جيش المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضعاف تلك المسافة فى رمال الصحراء.  قوات تقطع كل تلك المسافة راجلين أو على ظهور الجمال والخيول والحمير والبغال ليقاتلوا عدوا على بعد 680 كيلومترا ولا ينتظروا قدوم ذلك العدو.  انهم ينقلون الحرب خارج أرض المسلمين.  انهم يذهبون اليه دون خوف ولا تردد ولا وجل ولا تسويف ليقاتلوه وهو أحد القوتين العظميين الراسختين فى العالم فى ذلك الزمان وهم أمة ناشئة لتوها. لا دبابات ولا مصفحات ولا مجنزرات ولا طائرات ولا حتى عربات كارّو.  حرّ وعطش وجوع ونقص فى العتاد.  هكذا عُرف هذا الجيش باسم جيش العسرة.

"لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (*) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"

(سورة التوبة: الآيتين 117و118)

 

ولكنهم لم تعوزهم الشجاعة ولم يكن لديهم نقص فى الايمان ولا الاقدام ولا الاصرار.  كانوا فى معيّة الله عزّ وجل.  نزل المسلمون بتبوك.  بدأت الاستعدادات للقتال.  قام فيهم رسول الله وخطب فيهم.  نزل خبر وصول القوات الاسلامية بقيادة رسول الله على الرومان نزول الصاعقة.  لم يكن ذلك فى حسبانهم ولا فى تصورهم ولا فى تنبؤاتهم ولم يكن ليخطر على قلوبهم.  لم تستطع مخابرات القوة العظمى الرومانية النجاح فى اكتشاف قدوم القوات الاسلامية طوال خمسة عشر يوما من تحركها من المدينة. ولم يكن من بين المسلمين خائنا ولا ضعيف النفس ولا كلب حراسة للعدو يجتمع مع نساء موساد الرومان ليدبر ويفتعل أزمات لتربك رسول الله وجيش المسلمين.  حتى المنافقون لم يتمكنوا من التخابر مع العدو الرومانى ويبلغوه بتحرك جيش المسلمين.  أربك تفاجؤ الرومان بجيش المسلمين قيادة الرومان. شلّ قواتهم عن الحركة وجمّدهم في مكانهم فلم يتقدموا.  تفرّق جمعهم وولوْا الأدبار. تبددت قواهم ووهنت عزائمهم ولاذوا بالفرار وتشتتوا في الأمصار وذهبت ريحهم.  لم يحدث صدام ولا قتال ولا نزال بين الجيشين ولا التحام.  كتب الله النصر للمسلمين بقيادة رسوله صلى الله عليه وسلم.  اكتسب المسلمون سمعة عسكرية رهيبة قوية رادعة في قلوب الناس.  أصبح المسلمون قوة عظمى يحسب لها ألف حساب.  نبذ الكثير من حلفاء الروم التحالف معهم وتوجهوا للجيش الإسلامي المنتصر القوى المهاب.

 رجع الجيش الإسلامي إلى المدينة وقد حمل لواء الانتصار دون قتال. أصبحت له سمعة لم تكن له من قبل بين الناس.  وقعت خلال رحلة عودة المسلمين محاولة لاغتيال رسول الله.  تربّص اثنى عشر منافقاً محاولين قتله في موقع كان مناسبا لهم عندما كان جُلّ القوات الاسلامية في بطن أحد الأودية.  لم يكن مع الرسول سوى عمار وحذيفة بن اليمان رضى الله عنهما.  حماه حذيفة وارتعب المنافقون وفرّوا.  ونزل في القران الكريم:

"يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ۚ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ۖ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ"

سورة التوبة: آية 74)

)

عندما أقبل رسول الله على مشارف المدينة فى عودته المظفّرة بالنصر فى شهر رمضان قال

 "هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه"

 

 

وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه

 

خرج أهالى المدينة من النساء والأطفال لاستقبال الجيش الاسلامي العائد بالنصر والقوة والعزة.  استغرقت تلك الغزوة الشاقة بلا قتال خمسين يوماً.  منها عشرين يوما فى مواجهة قوات الرومان فى تبوك وثلاثون يوما ذهابا وايابا. عبر فيها جيش المسلمين صحراء قاحلة سيرا وعلى ظهور الدواب مئات الكيلومترات.  لا قطارات ولا حافلات مكيفة ولا استراحات ولا فنادق ولا دورات مياه ولا مياه ولا طعام .  عبروا الطبيعة بقوة الايمان والعزيمة والاصرار والاخلاص لله ولرسوله وللعقيدة والأمة.  أىّ رجال كانوا هؤلاء وأية أمة كانت  تلك وأى رجال وأى أمة أصبحت؟  هل يمكن أن يصدّق الأمريكان أو الروس أنّ مثل تلك العزائم كانت تسير يوما على الأرض؟  لقد كانوا أهلا للنصر فنصرهم الله وكانوا أهلا للظفر فأظفرهم الله.  لقد اشترى الله منهم أموالهم وأنفسهم وهم باعوا دنياهم بآخرتهم فكانوا من الفائزين؟  بم تاجرنا نحن مع الله؟  ماذا بعنا لله وماذا اشترينا؟  وكم دفعنا وماذا أنفقنا؟  لقد باتت حياتنا كلها شكاوى.  من شكوى الى شكوى. بلا بأس يقاس الا ما نجلبه على أنفسنا ببعدنا عن الله واتباع الهوى وحب الدنيا واسقاط الآخرة من حساباتنا و"أجنداتنا".

السلام عليك يارسول الله ورضى الله عن أصحابك أجمعين وجمعنا معك ومعهم فى مستقر رحمته.

 

الى لقاء فى الجزء التالى

 

محمد هاشم عبد البارى

29 نوفمبر 2012

الخميس، 29 نوفمبر 2012

الجزء2- الله..ثم الطبيعة والحرب والنفس والنصر_ محمد هاشم عبد البارى


بسم الله الرحمن الرحيم

الله.. ثم الطبيعة والحرب والنفس والنصر

الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى

28 نوفمبر 2012م

^^^^^^^

الجزء الثانى

 

غزوة الأحزاب  (الخندق)

أيقن أعداء الإسلام أنهم لن يستطيعوا الانتصار علي المسلمين إذا حاربوهم كطوائف معادية فرادى.  لقد رأوْا إنهم ربما يبلغون أملهم إذا اتحدوا في مواجة المسلمين.  كان زعماء اليهود في جزيرة العرب أكثر ادراكا من غيرهم بذلك.  أجمعوا أمرهم علي تأليب قبائل العرب ضد الإسلام وحشدهم في جيش كبير يحارب رسول الله وأصحابه معركة حاسمة.  كان ذلك حلقة فى سلسلة المؤامرات التي لم يدّخر اليهود جهداً إلا وبذلوه في سبيل هدفهم الثابت حتى يومنا هذا.  التحريض على القضاء عل الاسلام وعلى كراهية الاسلام وشريعته حتى بين أبناء المسلمين وزعمائهم ومثقفيهم ونخبهم.

خرج نفر من هؤلاء اليهود الى ديار غطفان وهي قبيلة محاربة خطيرة في الجزيرة العربية تبعد 120 كيلومترا شمال غرب المدينة.  دعوْهم إلى حرب الرسول صلى الله عليه وسلم.  طافوا في القبائل الأخرى لضمّهم الى التحالف المشترك لغزو المدينة وموافقة قريش عليه.  أجابوهم إلى ذلك.  هكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر علي الإسلام والمسلمين.  بلغ مجموع مقاتلى الأحزاب عشرة آلاف.  أسندت قيادة قوات الأحزاب إلى أبي سفيان بن حرب.  بدأ التأهب للزحف علي المدينة.

كان ذلك في شوال سنة خمس من الهجرة.  سمع الرسول الكريم بزحفهم إلى المدينة فاستشار أصحابه فى الأمر.  استقر الرأي علي البقاء بالمدينة والتحصّن بها لخطورة الالتحام مع تلك الجيوش الضخمة في ساحة مكشوفة.  لم يكن جيش المسلمين ليزيد علي ثلاثة آلاف مقاتل.

أشار سلمان الفارسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب خندق علي المدينة.  لقد كانت خطة عسكرية متبعة عند الفرس. نزل رسول الله على رأيه فأمر بحفر الخندق في سهل شمالى غرب المدينة.  انه الجانب المكشوف الذي يخشى منه اقتحام العدو.  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت.  قسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حفر الخندق بين أصحابه.  لكل عشرة منهم أربعين ذراعاً.

شارك رسول الله المسلمين في حفر الخندق ترغيبا لهم في الأجر.  انه خير قائد وخير قدوة.  صلى الله عليه وسلم.  أخذ نفر من رجال المنافقين يتسللون إلى أهاليهم بغير علم رسول الله ولا إذنه.  فيهم نزل قول الله تعالى:

"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ" إلى قوله تعالى: "وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"

 (سورة النور: آية 62)

كان طول الخندق الذى حفره النبى وأصحابه 5و4 كيلومترا بعمق  5 أمتار وعرض 6 أمتار. الخندق الذى حفره رسول الله وأصحابه كان أول مانع اصطناعى فى تاريخ الحروب الاسلامية.  كان من تدبير سلمان الفارسى رضى الله عنه وأرضاه.

 

كان البرد شديداً.  لم يجدوا من القوت ما يكفى لسد الرمق.  وقد لا يجدون القوت مطلقا.  كان المسلم يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع.  كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يربط حجران.

شهد المسلمون المعجزات التى أجراها الله تبارك وتعالى على يد رسوله الكريم فى حفر الخندق.  أعاقت المسلمين في جزء من الخندق صخرة عظيمة شديدة الصلابة لا تأخذ فيها المعاول.  شكوْا ذلك اليه صلى الله عليه وسلم.  لما رآها أخذ المعول وقال

 "بسم الله"

 وضرب ضربه فانكسر ثلثها فقال:

 "الله اكبر أعطيت مفاتيح الشام"

 فانكسر ثلثاً آخر فقال:

 "الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض"

ثم ضرب الثالثة وقال:

 "بسم الله"

 فقطع بقية الحجر فقال:

 "الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله أني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة"

  أنجز حفر الخندق في ستة أيام، وقيل قريبا من عشرين ليلة، وقيل أربعا وعشرين.  كان طول الخندق الذى حفره النبى وأصحابه 5و4 كيلومترا.  كان عمقه 5 أمتار (عمق طابقين من المبانى الحديثة) وكان عرضه 6 أمتار!

أقبلت جيوش الأحزاب حتى نزلت أمام المدينة في عشرة آلاف. كان جيش المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف فقط.  كان بينهم وبين القوم الخندق.  أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالأطفال والنساء فجعلوا في الحصون البعيدة ليكونوا بمأمن إذا استباح العدو المدينة.  رابط المسلمون علي جانب الخندق.

انسابت وحدات الأحزاب المقاتلة حول المدينة في أعدادها الهائلة.  ضربوا على المدينة الحصار.  لم يتسرب الخوف إلى قلوب المؤمنين.  لقد واجهوا تلك الجيوش الكبيرة بقوة العقيدة وثبات وثقة المؤمن بتأييد الله ونصره.  لقد اطلع الله على قلوبهم وأنزل فيهم الآيات

 "وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا"

 (سورة الأحزاب: آية 22)

 

كانت قوات المسلمين الى قوات المشركين فى غزوة الخندق 3:1 ولكن انتصر المسلمون بمعية الله مستعينين بجهاز مخابرات قوى وعنصر المفاجأة بحفر خندق لم يعهده العرب من قبل وأيّدهم الله بقوى الطبيعة سخرها لهم.

فوجئت حشود المشركين المهاجمة بالخندق.  أخذتهم الدهشة والذهول.  داخلهم الاضطراب.  انهم لا يعرفون القتال أمام تلك الموانع.  انهم لا يستطيعون عبور خندقا عميقا عرضه ستة أمتار لا رجالا ولا ركبانا.  انهم لم يكونوا يتوقعون مثل ذلك النوع من الدفاعات.  انهم لم يواجهوه من قبل ولم يألفوه.  رضى الله عنك يا سلمان الفارسى.  سلمان منا أهل البيت.

أخذ المشركون يجولون حول المدينة وقد بلغ الغضب منهم كل مبلغ.  يتلمسون نقطة ضعف أو ثغرة يتدفقوا منها عسي أن ينالوا من المسلمين ما يستطيعون.  أدرك المسلمون ما يحدق بهم وراء هذا الحصار.  قرر قناصة المسلمين أن يرابطوا في أماكنهم يقنصون بالنبل كل من يقترب من المشركين.

استطلعت وحدة استطلاع فرسان قريش حول الخندق.  اكتشفوا مكانا ضيقا من الخندق.  ضربوا خيلهم فعبرت منه.  جالوا بها في أرض المدينة.  منهم الفارس المشهور عمرو بن عبد ود.  كان يقوّم بألف فارس.  برز للمسلمين متحديا واضعاً علامة يعرف بها وتميزه.  برز اليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.  تبارزا وتجاولا.  قتله علىّ كرّم الله وجهه.

كان بين المسلمين وبين يهود بني قريظة عقد وعهد.  لم يكن مثل اتفاقية كامب ديفيد.  لكن المخابرات الاسلامية – التى لا تغريها ولا تغويها ولا تسكرها ولاتسقطها غانيات مخابرات العدو - حملت الى النبى فى تلك اللحظات الحرجة تقريرا بأن يهود بني قريظة نقضوا معاهدتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  وانضموا إلى كتائب الأحزاب التي تضرب حول المدينة.  لم يكن على رأس مخابرات رسول الله عملاء للعدو.  تأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مخابراته العسكرية من غدر اليهود.  قال عليه الصلاة والسلام:

 "الله أكبر ابشروا يا معشر المسلمين".

 

اشتد الحصار وتزايدت الأعداء وتكالبت وتحزّبت.  عظم بلاء المقاتلين المسلمين واشتد الخوف.  صوره القران الكريم في قول الله تعالى

  "إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا"

 (سورة الأحزاب، الآيات 10-11).

 

ازداد الأمر خطرا بقلق الرسول من زعيم المنافقين الانتهازى عبد الله بن أبىْ.  كان من أصحاب السوابق.  انسحب من قبل فى يوم غزوة أحد بثلث الناس من صفوف المسلمين.  لقد ظهرت بوادر النفاق من بعضهم حتى أنّ أحدهم قال:  كان محمد يعدنا بكنوز كسري وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن علي نفسه أن يذهب إلى الغائط.   ما أكثر المنافقين بيننا اليوم وما أكثر الخائنين وما أكثر الخائبين وما أكثر النخب وما أشبه اليوم بالبارحة!

 

خشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين فهمّ بعقد صلح بينه وبين غطفان علي أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة.  عدل الرسول عن ذلك بعد استشارة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة. قالا له: يا رسول الله أمرا نحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لابد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا؟  قال

 "بل شئ اصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم (غالبوكم) من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما".

 

أحاط المشركون بالمسلمين فحاصروهم قريبا من شهر.  اشتد البلاء.  استأذن بعض المنافقين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة زاعمين بأنّ بيوتهم عورة (غير محروسة وغير آمنة). أنزل الله فيهم:

 (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا)

 (سورة الأحزاب، آية 13)

 جاء المسلمون إلى رسول الله يسألون هل من شئ يقولوه فقد بلغت القلوب الخناجر؟ قال:

 "نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا"

  دعا رسول الله علي الأحزاب فقال:

 "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم".

 

جاء انعيم بن مسعود الغطفاني رسول الله وهو فى ذروة شدته هو وأصحابة.  قال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت !!!  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 "إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا إن استطعت فإنّ الحرب خدعة".

(أى أحمل أحزاب الشرك والكفر على خذلان بعضهم البعض وثبطهم عن نصرة بعضهم البعض).

  خرج نعيم بن مسعود الى يهود بني قريظة.  كان صديقهم في الجاهلية.  قال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إيّاكم وخاصة ما بيني وبينكم.  قالوا:  صدقت لست عندنا بمتهم.  تكلم معهم بكلام جعلهم يشكّون في صحة موقفهم وتأييدهم لقريش وغطفان الذين ليسوا من أهل البلد وعدائهم للمهاجرين والأنصار الذين هم أهل الدار وجيرانهم الدائمين.  أشار عليهم ألا يشتركوا مع الأحزاب في حرب ضد محمد حتى يأخذوا من الأحزاب رهناً من أشرافهم يبقونه في أيديهم خشية أن تنسحب الأحزاب ويتركوهم وحدهم.  قالوا له لقد أشرت بالرأي.  ثم خرج حتى أتي قريشاً.  أظهر لهم مودته واخلاصه.  أخبرهم بأن اليهود قد ندموا علي ما كان منهم من نقض عهد محمد.  وأنهم سيطلبون من قريش رجالا من أشرافهم يدفعونهم إليه ليقتلهم.  ثم خرج إلى غطفان وقال لهم مثل ما قال لقريش.  اختفي نعيم بن مسعود من الميدان.  أخذ يتابع نتائج وتداعيات تلك الوقيعة.  أصبح كل فريق منهم علي حذر من الآخر.  توغّرت صدورهم من بعضهم البعض.  امتلأت قلوب كل منهم شكّا وريبة فى الآخر.  ندبت الفرقة بينهم وتوجس كل منهم من صاحبه.

 

في ليلة سبت من شوال سنة خمس هجرية  قرر زعيم وقائد قوات الشرك أبو سفيان القيام بهجومه الكبير.  أرسل الى بني قريظة ليستعدوا معه للقتال.  جاءه الجواب سلبيا بأنهم لا يستطيعون قتالا يوم السبت.  طلبوا منه رهنا من رجاله فتحقق لقريش وغطفان صدق ما حدّثهم به نعيم بن مسعود.  رضى الله عنه.  امتنعوا عن تحقيق مطالبه.  تحقق لليهود كذلك صدق حديث نعيم بن مسعود.  تفرّق الشمل بين الأحزاب وانعدمت الثقة وتفتّت وحدتهم وتحالفهم.  نشب الخلاف بين الحلفاء فتوقف الهجوم!

بينما هم علي تلك الحال من التخبط والحسرة والحيرة واليأس إذ بعث الله علي قوات الأحزاب ريحا شديدة في ليلة شاتيه شديدة البرد جعلت تقلب قدورهم وتقلع خيامهم وتطرح أبنيتهم وتجرف مؤنهم وتطفىء نيرانهم.

رأي المشركون أن المقام متعذر علي تلك الحالة.  رجعوا إلى مكة.  رجعت غطفان إلى بواديها.  رحلت جميع قوات الأحزاب.  قال الله تبارك وتعالى فيهم:

"وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا"

  (سورة الأحزاب، آية 25)

 

لما أصبح المسلمون لم يجدوا أحدا من قوات أحزاب المشركين. ازداد إيمانهم وتوكلهم على الله.  وضعت الحرب أوزارها.  لم ترجع قريش بعدها إلى حرب المسلمين.  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

 "لن يغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم".

  أخذ رسول الله يهتف قائلا:

 "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو علي كل شئ قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده وهزم الأحزاب وحده، وصدق الله العظيم.

قال ربنا تبارك وتعالى فيهم

"يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا"

 (سورة الأحزاب، آية 9)

  لم يستشهد من المسلمين يوم الخندق الا تسعة رجال ولم يقتل من المشركين الا أربع!

وهكذا سخّر الله تبارك وتعالى قوى الطبيعة لنصرة المسلمين!

 

والى لقاء فى الجزء التالى

 

محمد هاشم عبد البارى

28 نوفمبر 2012

الأربعاء، 28 نوفمبر 2012

الجزء1- الله..ثم الطبيعة والحرب والنفس والنصر / محمد هاشم عبد البارى

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أخي الحبيب المهندس إبراهيم حسن

أخي الحبيب الأستاذ مجدي السيد

جوهرة الإسلام ابنتي الأستاذة أماني صلاح

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

أشكر لكم السؤال والاتصال الذي لم ينقطع عنى في الشهور السابقة.

كنت أجاهد حتى أستطيع أن أكتب شيئا عن حرب أكتوبر في وقت ذكراها.

لم تسعفني مقدرتي في ذلك الوقت.

وصلني تساؤلا من الأخ الحبيب الأستاذ مجدي عن طريق الأستاذة أماني صلاح  يوم الثالث من أكتوبر 2012.

 أصررت على ألا أرد إلا وفى يدي مقالة تليق بذكرى الحرب.

كنت محظوظا في هذخ الحياة فأنا الذي أستمتع بلقائ طلاب الجامعة كما استمتعت من قبل بالتعامل مع تلاميذ الابتدائي وطلاب الثانوي الذين درّست لهم من قبل كما كنت أستمتع بالتعامل مع العمال والأسطوات والجنود خلال مراحل حياتي المختلفة التي انقضت.

إن البطولات العسكرية التي أبداها وسيبديها بإذن الله المصريون والفلسطينيون واللبنانيون والعراقيون والأفغان والشيشانيون وغيرهم من أمة الإسلام ما هي إلا امتداد لبطولات المسلمين من عهد النبوة.

سوف لن تنقطع بطولات المسلمين في كل ميدان وفى كل مضمار ما تمسكوا بكتاب الله وسنة نبيه وشريعته ونبذوا العقائد والمناهج المستجلبة من عند أعداء الإسلام من الشرق ومن الغرب.

جزاكم الله خيرا ومتعكم أنتم وكل من يقرأ مقالي وكل المسلمين بالصحة والعافية والعزة والكرامة.

العزة متعة والكرامة متعة وغنى النفس متعة وقوة الاستغناء متعة والإسلام متعة.

محمد هاشم عبد الباري 

 

 

 

----- Forwarded Message -----
From: Amany Salah <amanysalah239@gmail.com>
To: 'magdy saeed' <smagdyhom2@hotmail.com>
Cc: 'Mohmed Hashem Abd_Elbary' <hashem_200374@yahoo.com>
Sent: Wednesday, October 3, 2012 7:58 PM
Subject: RE: تساؤل

 

الأخ الفاضل / الأستاذ مجدي

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

 

بارك الله فيك وجزاك الله خيراً على سؤالكم الكريم عن والدنا الفاضل / الأستاذ الدكتور محمد هاشم وأبشرك يا أخي الكريم أن والدنا وأستاذنا الفاضل والحمد لله بخير وبالصدفة كان هناك اتصالاً بينه وبين زوجي إبراهيم بالأمس ولكنه مشغول في الكلية بين طلابه المحظوظين

ولكننا نفتقد رسائله بشدة وننتظر جميعاً عودته خاصة وذكرى 6 أكتوبر على الأبواب ونتشوق إلى ذكريات البطولة التي يسردها لنا فيعود بنا إلى أجواء العزة والنصر والكرامة وأضم صوتي إلى صوتك وصوت الكثيرين وننتظر ولو سطراً واحدا من خبرات وإبداعات أستاذنا الفذ وها أنا ذا أرسل لسيادته نسخة من رسالتكم وأنا أرى ابتسامته المعهودة لإلحاحي عليه في هذا الأمر .

وعلى فكرة هذا رابط مدونة الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد الباري http://profhashem.blogspot.com/

 

وفى أمان الله ورعايته

أختكم في الله

أماني صلاح الدين

 

From: magdy saeed [mailto:smagdyhom2@hotmail.com]
Sent: 03 أكتوبر, 2012 03:16 م
To: amany salah
Subject: تساؤل

الأخت الفاضلة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أتساءل عن المشاركات الممتعة  للأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد الباري حيث لم نراها منذ فترة ، ولعل المانع خيرا إن شاء
  الله ويكون في صحة جيدة وأطيب حال
مجدي السيد

 

 

*******

بسم الله الرحمن الرحيم

الله.. ثم الطبيعة والحرب والنفس والنصر

الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى

25 نوفمبر 2012م

^^^^^^^

الجزء الأول

 

ليست للحروب مواسم ولا أيام محددة ولا أعياد يعرفها الناس فى تقويماتهم ويستعدّون لها يشحذون لها أسلحتهم ويعدّون لها ذخائرهم ويأخذون فيها حذرهم.  حتى فى الشهر الحرام "المحرّم" لن يدعك العدو فيه فى سلام.

 "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"

(سورة البقرة: آية 217)

 

   لن يدعك العدو فيه آمنا فعليك القتال فيه.  وحتى فى أيام أعيادكم تتفاجأ بالحرب دون أن تطرق عليك الباب.  وكم مارس العدو الصهيونى اللعين عدوانه على غزة وعلى لبنان وكم مارس العدو الأمريكى النجس عدوانه وحربه وغزوه على أفغانستان والعراق وباكستان فى شهر الصيام وصبّ على المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ آلاف الأطنان من القنابل والصواريخ ودمر البيوت والحجر والشجر وحرّق البساتين والمحاصيل.  حتى رؤسائنا الخائنون لله ولرسوله والخائنون لشعوبهم ولأماناتهم لا يرعوْن حتى أعياد شعوبهم المسلمة فيقتّلونها ويدمّرونها بأسلحتهم التى اشترتها حصائل ضرائبهم!

لا ينبغى أن يفوتنا أنّ غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وأنّ جلّ حروب المسلمين كانت فى شهر رمضان، وليست حرب العاشر من رمضان التى نصرنا الله فيها على عدونا عنا ببعيد.  لا ينبغي أن يغيب عن خاطرنا أنّ العدو الصهيونى لن يتركنا فى سلام طالما هو جاثم على أرضنا ولن تنتهى الحروب بيننا وبينه حتى يخرج بكامله من أرض المسلمين.  انّ العدو الصهيونى يعتنق عقيدة عسكرية عدوانية استيطانية شيطانية من أهم مفرداتها أنّ الهجوم خير وسيلة للدفاع، ونقل المعارك والحروب خارج الأراضى التى اغتصبها واحتلها، والحروب الاجهاضية المتواترة، والحروب الاستباقية.  كنْ على حذر وانفض عن فمك التثاؤب وعن كاهلك استمراء الاسترخاء.  الاسترخاء العسكرى والاسترخاء الصحى والاسترخاء الاقتصادى والاسترخاء الصناعى والاسترخاء الزراعى والاسترخاء التعليمى والاسترخاء الانتاجى والاسترخاء العلمى والاسترخاء التكنولوجى، وأهمها وأولها الاسترخاء العقائدى الذى يروّج له المرجفون من أبناء الأمة المسلمة والذين استطاع العدو أن يصدّهم ويردّهم عن عقيدتهم وزيّن لهم العدو الشيطانى نشر عدواهم لغيرهم من أبناء الأمة وبالرغم من كل ذلك فلن يرضى عنهم.

 

لقد اشتعلت حرب الاستنزاف (أو حرب الألف يوم كما أطلق عليها العدو الصهيونى) بيننا وبين العدو على ضفتي قناةالسويس بعد هزيمتنا فى الخامس من يونيو 1967.  اندلعت تلك الحرب عندما تقدمت المدرعات الصهيونية صوب مدينة بور فؤاد بهدف احتلالها يوم 1 يوليو، 1967.  تصدت لها قوة من الصاعقة المصرية بنجاح فى "معركة رأس العش".  تصاعدت وتيرة العمليات العسكرية خلال الأشهر التالية بعد رفض إسرائيل لقرار مجلس الأمن 242 الذى دعى الى انسحاب العدو الصهيونى من "اراض عربية" والتي احتلها عقب هزيمتنا المخزية خلال حرب يونيو1967.

استمرت الحرب لنحو ثلاث سنوات (1يوليو 1767 - 7 أغسطس 1970) استهدفت خلالها غارات سلاح جوّ العدو المدنيين المصريين التى طالت قرى الدلتا وحتى جامعة القاهرة باستخدام طائرات "الفانتوم" أحدث ما أنتجته الترسانة العسكرية الأمريكية فى ذلك الوقت.  استعانت قواتنا فى المقابل بصواريخ الدفاع الجوي "سام" السوفيتية الصنع لتأمين العمق المصري.  شهدت حرب الاستنزاف معارك محدودة بين إسرائيل وكل من سوريا والأردن والاستشهاديين الفلسطينيين.  انتهت مواجهات حرب الاستنزاف  في 7 أغسطس1970 بقرار كل من الرئيس عبد الناصر والملك حسين ملك الأردن قبول مبادرة "روجرز" مبعوث الولايات المتحدة لوقف إطلاق النار.  لم تؤدّ حرب الاستنزاف إلى أية  تغييرات في خطوط وقف إطلاق النار.  لم تنجح المساعي الاقليمية ولا الدولية التى هدفت الى التوصل إلى تسوية سلمية بسبب صلف وتعنت العدو.  سادت بيننا وبين العدو حالة من الركود القتالى كانت تسمى سياسيا "اللا سلم واللا حرب" والتي أدت بدورها إلى نشوب حرب أكتوبربعد 3 سنوات.

كان لسلاح مدفعية الميدان دور عظيم سواء فى حرب الاستنزاف أو فى حرب أكتوبر 1973 التى اقتحمت فيها قواتنا قناة السويس ودمرت خط بارليف وهزمت فيها العدو الصهيونى وكبدته خسائر فادحة غير مسبوقة فى الأرواح والسلاح والعتاد.  فى أحد الليالى حالكة الظلام فى شهر سبتمبر 1969 كانت هناك عملية ليلية ستقوم بها بعض قواتنا عبر القناة فى منطقة "أبو سلطان" تطلبت المعونة باضاءة أرض العملية بالقنابل المضيئة بالمدفعية.  تلقيت أمرا من قائد الكتيبة بالذهاب الى منطقة العملية بأحد المدافع لاضاءة أرض المعركة.  أخذت شاحنة لجرّ المدفع وأخذت كمية الطلقات المضيئة اللازمة وطاقم المدفع من الرجال وتوكلت على الله الى موقع العملية.  أنجزت العمل وتمت العملية بنجاح بتوفيق الله.  استمرت المعركة من التاسعة مساء حتى الواحدة بعد منتصف الليل تقريبا.  قفلت راجعا بالمدفع والطاقم، ولكن خلال العودة هبط الضباب فى المنطقة.  كنا نسير بالمدفع والضباب يهبط ويتكاثف ويشتد حتى انعدمت الرؤية بكشاف الشاحنة تماما ولو حتى لربع المتر.  أصبحنا لا نرى الطريق ولا نرى بعضنا البعض ولا نرى حتى أيدينا ونحن مستمرون فى الطريق.  نفذ الوقود من الشاحنة التى تجرّ المدفع دون أن نصل الى موقع الكتيبة.  توقفنا فى مكاننا بعد نفاذ الوقود حتى الفجر.  تنفس الصبح وبدا ضوءه وبدأ الضباب فى الانقشاع رويدا رويدا فكانت المفاجأة.  لقد اكتشفنا أننا على بعد 30 مترا فقط من موقع كتيبتنا وأننا كنا نسير بجوار موقع الكتيبة فى دائرة حتى نفذ الوقود!!!

 

مدفع الميدان 130 مم مجرورا بالشاحنة.  كان سلاحي في الحرب.  صبّ جام غضبه على العدو في حرب الاستنزاف وحرب العاشر من رمضان-أكتوبر 1973

 

لا أنسى حتى تلك اللحظة ذلك الموقف.  لقد قهرتنى قوة الطبيعة وبهرتنى قوة الطبيعة وفتنتنى قوة الطبيعة.  انّ قوة الطبيعة يتلاشى أمامها نيران المدافع ونيران الصواريخ وقوى القنابل والقوى النووية.  لا يجدى العلم ولا التكنولوجيا مع قوة الطبيعة شيئا.  عندما انقضّ تسونامى على جنوب شرق آسيا تذكرت الضباب والمدفع.  عندما اجتاح اعصار "كاترينا" ولاية فلوريدا بالولايات المتحدة ودمرها وأغرقها وأذلّ أهلها وحكومتها وبنتاجونها ومخابراتها تذكرت الضباب والمدفع.  تذكرت الضباب والمدفع منذ أسبوعين عندما انقضّ اعصار "ساندى" على كاليفورنيا ونيويورك.  انقضّ الاعصار على الساحل الشرقى لأمريكا دون أن يضع فى اعتباره صواريخها النووية ولم يضع اعتبارا حتى للأمم المتحدة فى نيويورك ولا لقوة أمريكا وجبروتها.  لقد التزموا الجحور كالجرذان.  لم يكن اعصار "ساندى" ولا اعصار "كاترينا" ولا غيرهما من الأعاصير مفاجئون للأمريكان بل كانوا ينتظرونهم ويعدّون العدة لهم.  ومع ذلك فاقت خسائر أمريكا من اعصار "ساندى" الخمسين مليارا من الدلارات، وهكذا كانت كذلك خسائر اعصار "كاترينا" عام 2005.  لا معارك ولا حرب ولا صواريخ ولا قنابل ولا بمب.  فقط أمر الله الريح فدمرت وأحرقت واقتلعت وجرفت وأغرقت وقتلت الانس والزرع والضرع وجعلت عاليها أسفلها.

"مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ"

(سورة ابراهيم: آية 18)

 

انّ الطبيعة هى الأعاصير والريح والبرق والرعد والمطر والسيل والجليد.  انها الحر والبرد والصقيع والضباب والتراب والزوابع والرطوبة والجفاف والنار.  انها الصحارى والجبال والأنهار والبحار والمحيطات.  انها البحيرات والمستنقعات والملاحات والأحراش والغابات.  من يزعم أنه قادر على قوى الطبيعة؟!

انّ الطبيعيون من العلماء والدارونيون يزعمون أنّ الطبيعة سلّحت والطبيعة كيّفت والطبيعة طوّرت والطبيعة زوّدت والطبيعة منحت الكائنات الحية كذا وكذا.  هل تستطيع الطبيعة أن تفعل أى من ذلك؟ لقد خلق الله الكائنات وقدّر لها أعضائها ووظائفها التى تتناسب مع البيئة التى تعيش فيها فى الطبيعة.  ولكن هل تفعل الطبيعة أفاعيلها التى نعرفها من تلقاء نفسها؟  وهل خلقت الطبيعة نفسها؟ أليس للطبيعة قوانين وحسابات؟  من ذا الذى خلق الطبيعة ومن ذا الذى وضع لها قوانينها؟ أليس هو الله الواحد القهار؟

انّ الطبيعة التى دمرت قوى أحزاب الكفر فى مواجهة النبى والذين معه فى غزوة الخندق وهزمتهم وبددت قواهم بقوة الريح التى اقتلعت خيامهم وقلبت قدورهم وحرمتهم من الطعام وأذاقتهم الجوع هى الطبيعة نفسها التى أنزلت المطر على النبى والذين معه رضوان الله عليهم فى غزوة بدر.  أنعشهم وطهّرهم وبلل الرمال تحت أرجلهم فثبت أقدامهم ومكّنهم من قتل المشركين وهزيمتهم. ألم يكن فعل الطبيعة انتقائيا فى الغزوتين؟  بلى، كان فعل الطبيعة انتقائيا جدا!  ولكن هل تعى الطبيعة وتدرك وتتصرف من تلقاء نفسها؟  كلا انه هو الله تبارك وتعالى خالق الكون والطبيعة والانس والجن والطير والدواب والشجر.  انه عزّ وجلّ اذا أراد شيئا فانما يقول له كن فيكون.  انّ الله سبحانه هو الذى خلق النار وهو الذى أمر النار ليس أن تفقد طبيعتها الحارقة فحسب بل أن تكون بردا وسلاما على خليله ابراهيم عليه السلام.

"قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ"

(سورة الأنبياء: آية 69)

 

"بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ"

(سورة البقرة: آية 117)

 

 انه هو الله الذى أرسل المطر لينعش النبى وأصحابه فى غزوة بدر ويطهّرهم ويبلل الرمال تحت أقدامهم فيثبتها فى القتال!  انّ الله لم يرسل على المؤمنين المطر المنعش فحسب بل أرسل عليهم النعاس قبل المطر لينالوا قسطا من الراحة ولتطمئن قلوبهم وليجددوا نشاطهم أثناء القتال!

"إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ"

(سورة الأنفال: آية 11)

 

من تفسير ابن كثير لتلك الآية الكريمة قال:

"يذكّرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أمانا أمّنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم.

 

وقال الحافظ أبو يعلى:

 حدثنا زهير حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن أبي إسحق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه قال:

 ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح.

 

وقال سفيان الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:

 النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة من الشيطان.

 

 وقال قتادة:

 النعاس في الرأس، والنوم في القلب.  قلت أمّا النعاس فقد أصابهم يوم أحد وأمر ذلك مشهور جدا، وأما الآية الشريفة إنما هي في سياق قصة بدر، وهي دالة على وقوع ذلك أيضا، وكأن ذلك كائن للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله، وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم وكما قال تعالى "فإنّ مع العسر يسرا إنّ مع العسر يسرا".

 ولهذا جاء في الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا كان يوم بدر في العريش (خيمة القيادة) مع الصديق رضي الله عنه وهما يدعوان أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ثم استيقظ مبتسما فقال

 "أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع"

 ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى

 "سيهزم الجمع ويولون الدبر".

 

 وقوله "وينزل عليكم من السماء ماء" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال:

 نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة دعصة (متجمعة يسهل المشى عليها)، وأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلّون مجنبين؟  (عندما أصابهم النعاس استيقظوا منه وهم جنبا).  فأمطر الله عليهم مطرا شديدا فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجس الشيطان، وثبّت الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم، وأمدّ الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة مُجَنِّبَةٍ (متباعدة أو متفرقة) وميكائيل في خمسمائة مجنّبة.

 

والمعروف أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده فتقدم إليه الحبّاب بن المنذر فقال:

 يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته منزلة أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال

 "بل منزل نزلته للحرب والمكيدة"

 فقال:

 يا رسول الله إنّ هذا ليس بمنزل، ولكن سرْ بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغوّر ما وراءه (نذهبه فى الأرض) من القلب ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل كذلك.

وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحق بن يسار صاحب المغازي رحمه الله: حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال:

 بعث الله السماء (أنزل من السماء ماء) وكان الوادي دهسا (رمال تغوص فيها الأرجل) فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبّد لهم الأرض (تداخلت الأرض ولزقت بعضها ببعض) ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه.

 

وقوله "ليطهّركم به" أي من حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر، "ويذهب عنكم رجز الشيطان" أي من وسوسة أو خاطر سيء وهو تطهير الباطن".

 

أى انتقاء ذلك فى أفعال الطبيعة؟  انه هو الله الذى أمر الريح فقلبت قدور المشركين فى غزوة الأحزاب وحرمتهم من مؤنهم واقتلعت خيامهم من دون المسلمين وهم على بعد أمتار منهم، أى انتقاء ذلك أيتها الطبيعة؟!!!  انّ الله هو الذى خلق الطبيعة وأعطاها قوانينها وهو وحده الذي يغيّر قوانينها متى شاء.

تسونامى اندونيسيا عام 2004 أودى بحياة مئات الألوف من الأنفس وسوّى عشرات الألوف من المنازل والمبانى بالأرض.  لقد عرفنا ورأينا كيف كانت قوة تسونامى.  وسط فضلات المبانى التى دمرهها ومحاها تسونامى لم يبق الا بيت الله، ذلك المسجد الذى ظل صامد ونجا من تسونامى.  انتقاء ربانى لفعل قوى الطبيعة!!!

 

قدرت الطاقة الكلية المنطلقة من زلزال اليابان فى مارس 2011 بأنها تعادل 7و6 مليار طن من قنابل ت. ن. ت. شديدة الأنفجار، أو بنحو 1000 مرة قدر جميع الأسلحة النووية التى على الأرض مجتمعة.

ألم تكن الصيحة التى أرسلها الله تبارك وتعالى على قوم شعيب عليه السلام انتقائية؟  لقد كان الانتقاء ربانيا.  انّ الصيحة التى أخذت الذين كفروا بشعيب ورسالته وشريعته لم تكن الا رجفة.  صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فرجفت بهم الأرض فخرجت أرواحهم من أجسادهم.

لقد رجفت بهم الأرض التي ظلموا بها وأرادوا إخراج نبيهم منها. لما أساءوا الأدب في مقالتهم وفى اعلامهم على نبيهم وشريعة ربهم أرسل الله عليهم الصيحة التي استلبثتهم وأخمدتهم وتركتهم هامدين لاصقين بالأرض لا حراك بهم.  لقد رجفت بهم الأرض وحدهم دون شعيب والذين آمنوا معه.  قال ابن عباس: "ما أهلك الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم صالح وقوم شعيب، أهلكهم الله بالصيحة، غير أنّ قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم الصيحة من فوقهم".  لما نادى شعيب ونادى صالح عليهما السلام بوحدانية الله وتطبيق شريعته كان أقوامهم الذين كذّبوهما يتهمونهما "بشعبنة" القوم و"بصلحنة" القوم!  ألا يخشى المرجفون أن تأخذهم صيحة من ربهم؟  انّ الصيحة قد تكون جماعية وقد تكون فردية فهى انتقائية.  انّ الصيحة فى عصرنا الذى نعيشه قد تكون مرضا عضالا وقد تكون فضيحة مدوية يتمنى صاحبها معها لو تبتلعه الأرض وقد تكون موتا مفاجئا وهو على الكفر بشريعة الله ومنهجه.

 

"وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ"

(سورة هود: آية 94)

 

لقد تنوّع عقاب ربنا لمن كفر بشريعته وقاوم ارادته وناصب أنبيائه وأتباعهم العداء بقوى الطبيعة التى خلقاها وأعطاها قوانينها.  منهم الذين أرسل الله عليهم حجارة من طين منضود (متتابع  ومضموم بعضه إلى بعض للعذاب) وهم قوم لوط وكان الطين المتكتل انتقائيا فى فعله.  منهم مَن أخذته الصيحة وهم قوم صالح وقوم شعيب وكانت الصيحة انتقائية فى انتقامها.  منهم مَن خسف الله به الأرض كقارون وكان الخسف انتقائا فلم تخسف الأرض الا بدار قارون.  منهم مَن أغرقه الله وهم قومُ نوح وفرعونُ وقومُه.  انشق البحر بعصا موسى بقدرة الله.  عبر موسى عليه السلام ببنى اسرائيل آمنا ثم انطبق البحر على فرعون وجنوده فأغرقهم.  منهم قوم نوح أغرقهم الطوفان بموج كالجبال.  كان الموج الرهيب حنونا على سفينة نوح الخشبية البدائية التى تحمله والذين آمنوا معه وأزواج الكائنات.  لم يكن الله ليهلك هؤلاء بذنوب غيرهم فيظلمهم بإهلاكه إياهم بغير استحقاق.  لكنهم كانوا أنفسهم يظلمون بتنعمهم في نِعَم ربهم وعبادتهم غيره من الأصنام والأيديولوجيات والدساتير والعقائد الفاسدة والهوى ومحاربتهم لتطبيق شريعته.

 

"فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"

(سورة العنكبوت: آية 40)

 

لا أنسى أبدأ جمال الطقس وصفاء السماء وعليل النسائم وسطوع الشمس ونحن البادئين فى القتال يوم العاشر من رمضان.  قبل بدء إطلاق النار وقبل أن نعرف ما نحن صانعوه فى ذلك اليوم كنا نغبط أنفسنا على حلاوة الجو وكان حديثنا عن جمال الطقس الذى كان ينبىء بصيام مريح!  لقد كان الطقس ملفتا جدا لأنظارنا فى الجبهة!  لقد أعاننا الطقس الجميل بالفعل على جهودنا ونحن صائمون مثلما أعاننا التدريب الشاق المستمر قبيل الحرب.  حتى أننا لم نكن نشعر لا بأننا فى حرب ولا بأننا صائمون.  انه يوم لا ينسى.  لقد استمر الطقس فى حلاوته طوال أيام الحرب.  أليس ذلك بيد الله ومن فضل الله أيها المسلمون؟ 

 

والى لقاء في الجزء التالي

 

محمد هاشم عبد البارى

25 نوفمبر 2012