بسم الله الرحمن الرحيم
عظماء بلا ضجيج..
الأستاذ الدكتور أحمد الشاذلي
بقلم الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد الباري
*******
"فيرى جود"!
قالها بلكنة بريطانية بعد أن وقف بضع دقائق أمامي يراقبني وأنا أرسم العقرب بالحبر الصيني الأسود الذي كنا نسميه "بالحبر الشيني". كان يمر علينا خلال الدروس العملية "لعلم الحيوان العام"، ولكنني لم أسمعه يتكلم من قبل في الدروس السابقة، فقد كان يحدث الطلاب بصوت خفيض لا يسمعه الآخرون. قلت في نفسي بعد أن نظرت إليه شاكرا: "وهل الانجليز لا يزالون يدرّسون في الجامعات المصرية أم هو من بقاياهم؟"
كان أحمر الوجه بشارب وحواجب كثيفة سوداء جميلة، من الصعب أن تصدق أنه مصري وبخاصة عندما سمعت منه "فيرى جود" تلك. وقف يراقبني في صمت ولم يتكلم بالمزيد ثم انصرف وأنا لا أزال أعتقد أنه أستاذا انجليزيا يدرّس في الجامعة.
كنا في الفصل الدراسي الجامعي الثاني عندما كنا ندرس علم الحيوان العام في السنة الأولى في العام الجامعي 1959/1960.
كنت قد تخرجت في المدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية بعد أن أنهيت الدراسة الإعدادية التي كانت أربعة سنوات. كنت من الدفعة الأولى التي طبق عليها نظام الإعدادية. فقد كانت الدفعة من الطلاب الذين سبقوني مباشرة ينتقلون من المرحلة الابتدائية مباشرة إلى المرحلة الثانوية. كان بعض الطلاب الذين سبقوني بدفعات لا يزالون يتتلمذون في اللغة الانجليزية واللغة الفرنسية على أيدي مدرسين أجانب في بعض المدارس. وكان هناك بعض الأساتذة الأجانب في الجامعات المصرية تقريبا حتى ذلك الحين. فلا عجب أن أعتقد أن هذا الأستاذ انجليزيا من شكله ومن لكنته في الكلمتين المقتضبتين "فيرى جود". وإذا كان مصريا فلماذا لم يقل لي مثلا "حسن" أو "أحسنت". ولماذا يبقون على هؤلاء الانجليز في الجامعة وقد اعتدوا علينا مع الفرنسيين واليهود عام 1956 عندما كنت في الإعدادية، وكنت وزملائي نتدرب على البنادق التشيكي الجديدة، و كنا نتوزع للدفاع المدني على المنشآت والكباري والأماكن الحيوية مع جنود الجيش البواسل، عندما تحولت كل المدارس إلى ثكنات عسكرية وتحول كل طلابها إلى جنود صغار؟
كل ذلك كان يجول بخاطري وتتلاطم الذكريات في عقلي وقلبي التي استدعيتها وأنا أرسم الحيوانات مفصلية الأرجل في ذلك الدرس العملي لمجرد أنني رأيت ذلك الخواجة وسمعت منه "فيرى جود".
أخذ ذلك الأستاذ الأحمر اللون الانجليزي اللكنة الذي كان في أوائل الأربعينات من العمر في التجول بين الطلاب حول طاولات المعمل. وقبل أن ينتهي وقت الدرس وأنا أراقبه خلسة اتجه صوبي فتعمدت الانشغال عنه بفحص النماذج التي أمامي. وقف أمامي وأنا جالس على الطاولة قائلا:
"أنا منتظرك في معملي بعد الدرس"
وأخذ في وصف مكان المعمل، فقد كنت طالبا في السنة الأولى ولم أكن متخصصا في ذلك الوقت لأنّ التخصص يبدأ في كلية الزراعة في السنتين الثالثة والرابعة. بمجرد أن تحدث إلى بالعربية باللهجة العامية الواضحة أيقنت بأنه ليس خواجة وأن هواجسي كلها لم يكن لها لزوم. ثم أردف الأستاذ في تواضع عجيب:
"أنا اسمي أحمد الشاذلي"
بالطبع كطالب وفى السنة الأولى عندما يقول لي أستاذ أنه منتظرنا في معمله بعد الدرس العملي فانه لا يسعني إلا أن أذهب إليه مهرولا، وبخاصة إذا لم أكن أعرف سبب طلبه لي. ذهبت إليه في معمله الذي وصفه لي فوجدته أنه لم يكن إلا تلك القاعة التي كانت تضم مكاتب أساتذة كلية الحقوق! فقد كانت كلية الحقوق حتى ذلك العهد في كلية الزراعة حتى بني لها مبنى كبيرا خاصا في مجمّع الكليات النظرية، وكنت أحضر مناقشات الماجستير والدكتوراه في الحقوق في مسرح كلية الزراعة في ذلك الوقت، حتى أنني حضرت مناقشة رسالة دكتوراه في الحقوق لأحد مدرسي اللغة الفرنسية الفضلاء في مدرستي الثانوية "العباسية الثانوية"! اننى فقط ألمّح إلى مستوى أساتذتنا في المدارس الذي كان! وكانت كلية الهندسة ذلك الصرح العظيم قد تم اكتمال بنائها لتوه قبل أن تنتقل إليه من مبنى مدرسة "محمد على الثانوية الصناعية"! كان معمل الأستاذ الدكتور أحمد الشاذلي هو قاعة مكاتب أساتذة الحقوق سابقا.
الأستاذ الدكتور أحمد يوسف الشاذلي رحمه الله وعلى يمينه كاتب المقالة عام 1971
أخذ الأستاذ الدكتور أحمد يوسف الشاذلي في تواضع منقطع النظير وببساطة العالم الواثق من نفسه في وصف معمله لي أنا طالب السنة الأولى، وكان المعمل كبيرا، سبعة أمتار عرضا وثلاثة عشر متر طولا وسبعة أمتار ارتفاعا. كان يقول لي هنا تجد كذا وهنا تجد كذا وكأنه يشرح لي مكان اقامتى الجديد!!! وقد كان!
فمنذ وطأت قدماي مكان المعمل أصبح هو مكاني في كلية الزراعة! خصص لي مكانا أضع فيه مستلزماتي البسيطة دون أن يطلب صراحة أن أقيم في المعمل، ولكنه دعاني ضمنا عندما خصص لي مكانا في المعمل! وكان اليوم الذي أتغيب فيه عن المعمل يسألني منزعجا عن السبب! أخذ يشرح لي بتواضع العالم وأنا الطالب الصغير أبحاثه في فسيولوجيا الحشرات وأخذ يشركني في العمل ويشرح لي الهدف من التجارب والأبحاث ويكلفني بالقراءة في موضوعاتها. أخذ أيضا يطلعني على أبحاث الماجستير والدكتوراه التي يشرف عليها وأشركني في مهام طلاب الدراسات العليا وهمومهم، وكان يتلقى ويتقبل منى المشاركة المتواضعة في حلول المشكلات باهتمام بالغ.
لقد كانت طبيعتي مختلفة نوعا عن بقية زملائي وأقراني في تلك السن. كانت المصروفات السنوية للتعليم في كلية الزراعة تفوق ثلاثة أضعاف راتب والدي الشهري، فلم تكن مجانية التعليم قد تقررت بعد. لم أكن أقبل أن أكون سببا في ذلك العبء على كاهل الوالد رحمه الله، فقررت النزول إلى سوق العمل. لم يكن في ثقافتنا أبدا في ذلك الوقت أن يعمل الطالب لكي ينفق على تعليمه.
بل كانت الثقافة العامة تنظر إلى مثل ذلك الأمر باندهاش ممتزج بالاستنكار. لم يكن أحدا من أقراني في الكليات العملية يعمل لينفق على تعليمه. ولكن في الكليات النظرية كان البعض يدرسون في الجامعات وهم يعملون في وظائفهم، ولكن عملهم هو الأساس، وربما يظل يدرس حتى يحصل على الليسانس بعد سنوات طويلة جدا. ولكن أن يكون طالبا في كلية عملية ويعمل فقد كان ذلك أمرا مستحيلا، وحتى من الناحية القانونية لم يكن مسموحا به.
عملت في التدريس في المدارس الابتدائية، وفى المدارس الإعدادية، وفى المدارس الثانوية! حتى أنني كنت في بعض السنوات مدرسا في مدرسة ابتدائية ومدرس حصة في مدرسة ثانوية وطالبا في كلية الزراعة في آن واحد. كنت أتقاضى راتبا شهريا منتظما من المدرسة الابتدائية راتبا قدره خمسة جنيهات وكنت أتقاضى نحو ستة جنيهات في الشهر من المدرسة الثانوية عن تدريس الأحياء والكيمياء! لم يكن ذلك على حساب دراستي في الكلية فقد كنت منتظما تماما في جدولي في المحاضرات والدروس العملية، وكنت موفقا من قبل الله تبارك وتعالى في التفوق. عملت لمدة عام ونصف في المدارس دون أن يشعر أستاذي الدكتور أحمد الشاذلي ودون أن أخل بالتزاماتي في الدراسة والتحصيل ولا في التزاماتي نحو معمله الحبيب.
يوما أحسّ أستاذي الدكتور أحمد الشاذلي بذلك. كان مندهشا ومتعجبا، ولا أريد أن أقول معجبا. فلم يكن ليظهر إعجابه بى أبدا إلا في كلمتي "فيرى جود" اللتين قالهما لي في أول الأمر، وقضى الأمر! ويبدوا أنه كان مهتما، بل انه كان كذلك فقد شغله ذلك الأمر. كان مفتاح المعمل معي وكان يطلق يدي في كل شيء في المعمل وإدارته وترتيبه وتنظيم العمل به. كان للدكتور أحمد مكتبا بعيدا عن المعمل ولكنه كان يفضل المكوث في المعمل وحتى الساعة الحادية عشر والثانية عشر مساء مع تلاميذه طلاب الماجستير والدكتوراه. لم يكن له مكتب للجلوس داخل المعمل ولكن كان له طاولة معمل طويلة أمام السبورة يجلس عليها مع تلاميذه. كان جالسا إلى طاولته عندما ناداني وقد كنت أقف في إحدى التجارب إلى طاولة معمل أخرى فلبيت على الفور.
أعطاني قصاصة صغيرة من الورق قائلا: "اقرأ هذه الورقة". قرأتها فوجدت فيها: "شريف بك الهرّاوى، تحياتي. قادم إليك محمد هاشم عبد الباري، أرجو أن يوفق في تبييض وجهي كما سيوفق في تبييض الأرز". في الحقيقة أنني أدركت أنه سيرسلني إلى أحدهم لأقوم بمهمة لا أعرفها وهو يعرفها سوف أفهمها في الوقت المناسب. قال لي اذهب غدا إلى "شريف بك" الساعة الحادية عشر وستجده في انتظارك ووصف لي المكان! لم أشأ أن أناقشه في التفاصيل ما لم يتحدث هو عنها. كان المكان هو "شركة مضارب أرز القبّارى" في منطقة القبّارى التي تبعد عن الكلية نحو 12 كيلومترا. ذهبت في الموعد المحدد بالضبط. سألت عن "شريف بك الهرّاوى" على باب الشركة فوجدتهم يبالغون في الاهتمام بى وأوصلوني إلى مكتبه. لقد كان المفوض على الشركة من قبل الدولة بعد تأميم الشركات. دخلت إليه فرحب بى فسلمته قصاصة الورقة فطلب مدير شئون العاملين فوقف في أدب جم بين يديه فقال له: "أكتب عقد لمحمد هاشم عبد الباري وسلمه العمل الآن"!!!
تسلمت العمل في شركة "مضارب أرز القبّارى" منذ نفس ذلك اليوم حتى تخرجي في كلية الزراعة. في السنة التالية من العمل في الشركة كنت في السنة الثالثة بالكلية ومتخصصا في قسم الحشرات الاقتصادية. لم يصبح لدى وقت للتدريس في المدارس فاعتذرت وتفرغت للدراسة والعمل في الشركة. وحتى لا يتعارض العمل في الشركة مع المحاضرات والدروس العملية في الكلية فقد اخترت العمل في الشركة في الدوام الليلي من السابعة مساء إلى السابعة صباحا ومنها كنت أذهب إلى الكلية لحضور المحاضرات والدروس العملية.
أشركني أستاذي الدكتور أحمد الشاذلي في كل الأمور، وحتى أنه ترك لي أن أضع بعض البصمات في كتاب له قبل أن أدرسه رسميا في السنة الثالثة في التخصص! كان شخصية فذة واثقة من نفسها كل الثقة.
تخرجت في قسم الحشرات بالكلية وكنت لا أزال موظفا في شركة المضارب. ولكنني وفور تخرجي بدأت العمل في الشركة نهارا وسجلت للتحضير لدرجة الماجستير في فسيولوجيا الحشرات، وهو تخصص أستاذي العبقري الدكتور أحمد الشاذلي الذي جعلني أشتاق وأتعجل التخرج لكي أدرس الماجستير في ذلك التخصص.
أصبحت مغرما ليس بالدكتور أحمد الشاذلي فحسب بل وبتخصص الدكتور أحمد الشاذلي كذلك. اختار لي دراسة فسيولوجية الأسيتايل كولين في الحشرات، وهو الناقل الكيميائي للنبضات العصبية في الجهاز العصبي المركزي في كل من الإنسان والحشرات.
لم يكن ذلك الرجل عالما عاديا. كان يوزع تلاميذه لدراسة المقررات الدراسية في كليات مختلفة. منها كلية الطب وكلية الصيدلة وكلية العلوم وكلية الهندسة وحتى كلية الآداب. كان يثقل على تلاميذه في العلم، ولكنه هو أول من يثقل على نفسه. لقد درست من خلال برنامج الماجستير في كلية الصيدلة "المعايرات الإحيائية للأدوية ستاندردايزيشن" و"علم تأثيرات الأدوية الفاماكولوجى"، ودرست في كلية العلوم "الفسيولوجي المقارن كومباراتيف فسيولوجى". في الحقيقة كان ذلك الأستاذ العظيم يقذف بنا في أتون العلم إن جاز التعبير. ولكنه قبل أن يقذف بنا كان يرينا من نفسه العجب. فلم يكن يقذف بنا في المحيط العميق المتلاطم إلا بعد أن يشهدنا على أنه كان يغوص في أعماق ذلك المحيط.
لقد كنا تلاميذ ذلك العالم العامل نأخذ ممن حولنا ونعطى أكثر مما نأخذ. كان على كثرة تلاميذه وتنوّع موضوعاتهم العلمية التي يبحثون فيها إلا أنه لم يكن يطالبهم بالقراءة والاطلاع بقدر ما كان يسبب لهم الحرج من كثرة اطلاعه. لم يكن أحدا منا يستطيع أن يسبقه إلى معلومة مطلقا. مهما كان تلاميذه مجتهدون ومبادرون في القراءة والاطلاع، فإنهم كانوا يجدوه قد سبقهم إلى ما يظنون أنهم قد سبقوه إليه، وقد ترك تعليقاته عليه بالقلم الرصاص الخفيف!!!
بمجرد تخرجي- وأنا مستمر في وظيفتي في شركة مضارب أرز القبارى- بدأ الدكتور أحمد الشاذلي في اشراكى معه في المشاريع البحثية العلمية بجانب دراستي للماجستير. عندما أتذكر عملي معه في المشروعات البحثية الآن وأنا أستاذ أدرك كم كان ذلك الرجل فذا وعالما وكم سبق عصره! أقول ببساطة أنه كان قد سبق عصره في ذلك الوقت بما لا يقل عن أربعين سنة! ففي الوقت الذي كان أقرانه مشغولون ومبهورون ومفتونون بالمبيدات الكيميائية الحشرية ويجرون فيها البحوث على قدم وساق، كان الدكتور أحمد الشاذلي مشغولا ومهموما بدراسة التأثيرات السامة للنباتات على الحشرات واستخلاص المواد الفعالة من النباتات. كان الجميع ينظرون باستغراب وامتعاض لتلك الأبحاث والمشروعات البحثية. كان أشبه بسيدنا نوح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم. كان نوح عليه السلام يصنع الفلك على أرض صحراء جرداء لا علاقة لها ببحار ولا أنهار وكان قومه كلما مروا به يسخرون منه!
"وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ" (سورة هود: آية 38)
كان الجميع مفتونون بالمبيدات الكيميائية المصنعة ويرون فيها الحلول السحرية لمشكلات الآفات الحشرية فى الزراعة وفى غير الزراعة. وكان العملاق ثاقب النظر وبعيد النظر أحمد الشاذلي يرى الحلول فيما تنتجه الطبيعة.
لقد بدأ الدكتور أحمد الشاذلي مبكرا جدا منذ عام 1962 في البحث في المستخلصات النباتية وموادها الفعالة في مكافحة الحشرات. كانوا يسخرون منه ولا يبالى. الآن ومنذ نحو عقدين من الزمان أدرك العلماء مخاطر المبيدات الكيميائية المصنعة على الإنسان وعلى البيئة وأدركوا كم تعانى البشرية من الإسراف في استخدامها. تسممات وفشل كلوي وفشل كبدي وسرطانات. أدرك العلماء منذ أكثر من ثلاثة عقود كيف أنّ الحشرات قد اكتسبت تحملا للمبيدات والذي يتطور سريعا إلى مقاومة للمبيدات!
ذلك ما يدفع العلماء إلى اللهث وراء استنباط مبيدات جديدة تكلف الشركات مليارات الدولارات والتي تحمّلها على أثمان المبيدات. الآن ومنذ نحو عقدين من الزمان أخذ العلماء والباحثون وشركات المبيدات يلهثون ويتلمسون الحلول في المواد الفعالة في النباتات!!!
كم كنت بعيد النظر وكم كانت نظرتك ثاقبة يا دكتور أحمد الشاذلي؟ رحمك الله يا دكتور أحمد الشاذلي وجعل الجنة مثواك.
كانت مشاريعه البحثية ورسائل الماجستير والدكتوراه التي يشرف عليها تهدف إلى حل مشكلاتنا بأبسط وأرخص وأسرع وأنجع الطرق. في أحد رسائل الماجستير التي أشرف عليها تم اكتشاف طور جديد لأول مرة في العالم في حياة حشرة تربس القطن الماصة لعصارة النباتات. ولكي تتصور دقة ذلك الاكتشاف أخبرك بأن طول تلك الحشرة 5و2 ملليمتر. أنجز مشروعا بحثيا عن مكافحة دودة ورق القطن بمحاليل البلاستيك. كنا نعامل أوراق القطن برشها بمحاليل بلاستيك مخففة فتأكلها دودة ورق القطن فتؤدى إلى اضطرابات في تطورها وإنتاج أفراد مشوهة غير قادرة على التناسل والاستمرار في دورة الحياة. اشتركت معه في مشروع بحثي آخر عن مكافحة الحشرات بالمصائد الضوئية في أوائل السبعينات. ابتكر مصيدة ضوئية لاصطياد وجذب الحشرات وقتلها وتغيّر الحاوية التي تتلقى فيها الحشرات تلقائيا كل ساعتين. كان هدفها جمع وقتل الحشرات بالضوء ودراسة أوقات نشاطاتها طوال الليل وحصر الحشرات في المنطقة التي توضع فيها واكتشاف أنواع لم تكن معروفة. عدة عصافير بحجر واحد. لم نكن نستطيع متابعة ملايين الحشرات التي كانت تصطادها المصيدة كل ليلة. كانت تحتاج إلى فريق هائل لمتابعة نتائج عمل المصيدة!
إن كل تلك المشروعات البحثية الاقتصادية الهادفة هي على سبيل المثال لا الحصر والتي كان يقوم بها الأستاذ الدكتور أحمد الشاذلي، في الوقت الذي كان الجميع مشغولون بالمبيدات الحشرية الكيميائية. ولكن الأدهى من ذلك كانت أخلاقيات الدكتور أحمد الشاذلي في تلك المشروعات البحثية. فما بالكم بأستاذ جامعي يحصل على تمويل ألف جنيه (فقط ألف جنيه) من وزارة الزراعة لإجراء مشروع بحثي وتكون فيه مكافأته ثمانية جنيهات ومكافأتي ثلاثة جنيهات عام 1972، ثم ينجز مشروع المصيدة الضوئية العظيمة الهائلة بأقل ما يمكن من تكاليف ويعيد بقية ميزانية المشروع إلى وزارة الزراعة!!! إتقان للعمل، وقناعة وتواضع في الرزق، وأمانة منقطعة النظير، واقتصاد في الإنفاق، وصدق في القول وفى العمل، ونتائج علمية واقتصادية مبهرة، كان ذلك منهاج العملاق الدكتور أحمد الشاذلي رحمه الله.
كان الدكتور أحمد الشاذلي دائم الاطلاع في العلم وفى غير العلم. كان عالما فذا في تخصصه وكان واسع الثقافة. لم يكن يمل القراءة ولم يكن يضيع وقتا حتى أنه كان يقرأ أثناء سيره في الطريق. كان يحفظ القرآن الكريم ويردده أثناء سيره في الطريق. كان رحمه الله رجلا موسرا وكان يستطيع أن يأكل بملعقة من الذهب، ولكنه كان بسيطا كل البساطة. كان لديه ورشة للنجارة يصنّع فيها أثاث مبتكر اقتصادي متعدد الأغراض من تصميماته التي تذهل. ولكنني أقول أنه كان يمسك أدوات النجارة بيد والكتاب باليد الأخرى. عين على النجارة وعين على الكتاب في نفس الوقت. كان هذا منهجه حتى مع أولاده. لم يكن يركن إلى العلم فقط ولكنه كان صاحب صنعة. وعلم أولاده العلم وعلمهم الصنعة. كان ابنه الأكبر منير (طبيب كبير في أمريكا الآن) كان طالبا في كلية الطب وكان يجلب له معلما في الالكترونيات في نفس الوقت يعلمه صنعة الالكترونيات معنا في المعمل. كان ابنه الأصغر محمد (مهندس عظيم في أمريكا الآن) كان طالبا في كلية الهندسة ومع ذلك كان يتعلم صنعة لحام إطارات السيارات في إحدى الورش. شقيقتهم الصغرى الآن أستاذة مرموقة في كلية طب الأسنان بجامعة الإسكندرية. لم يكن الرجل يعرف المستحيل. لقد سبق عصره أيضا في تعليم أولاده الصنعة. اليوم في مصر يعلمون خريجي الجامعة الصناعات في دورات تدريبية منظمة ويتهافت عليها الخريجون، ولكن في زمن الدكتور منير والدكتور محمد لم يكن الشباب الجامعي يستسيغ مثل ذلك! أتذكر في ذلك المقام أيضا قصة سيدنا نوح وصناعة الفلك في الصحراء وسخرية القوم منه.
كان الدكتور أحمد قويا في الحق ومقاتلا عنيدا وذو شخصية جبارة ومع ذلك فقد كان في غاية التواضع والأدب. كان بالطبع يتقن اللغة الانجليزية ونحن للأسف ننجز الماجستير والدكتوراه بالانجليزية. ولكن رأى الدكتور أحمد وهو في الخمسين من عمره أن يتعلم اللغة الفرنسية. من المدهش أن يعلم ذلك الرجل نفسه اللغة الفرنسية بنفسه وعلى السبورة في المعمل ويتقنها في زمن قياسي. والمذهل أن يتقن اللغة لدرجة أن ينجز بها رسائل ماجستير ودكتوراه في الجزائر حيث سافر الجزائر ومكث فيها أكثر من 10 سنوات كان يدرس فيها باللغة الفرنسية التي كان قد تعلمها حديثا!
في مضمار الرياضة كان للدكتور أحمد الشاذلي باعا طويلا. فقد كان خيّالا وفارسا مغوارا، وكان رائد الفروسية في الجامعة لسنوات طويلة، كما كان سباحا ماهرا. كان يظل يسبح بالساعات في حوض السباحة في الكلية من بعد صلاة العصر إلى المغرب ثم يخرج من حوض السباحة ليتناول تلاميذه في الماجستير والدكتوراه وأبحاثه ومشاريعه البحثية إلى وقت متأخر من الليل. كان رجلا كاملا ومتكاملا ذلك العالم العملاق العنيد.
لم يكن الرجل يعرف المستحيل لا مع نفسه ولا مع أولاده ولا مع تلاميذه. كنت أقوم بتدريس الدروس العملية في فسيولوجيا الحشرات وهو أستاذها. لم أذكر يوما أنني طلبت منه تذليل عقبة من العقبات ولم أشعره يوما بعجز عن فعل أي أمر من الأمور وانجازه. كنت أوفر كل الإمكانات بطريقتي الخاصة حتى أنني كنت أتواصل حتى مع كليات جامعة القاهرة وغيرها وأتبادل معهم المواد الكيميائية وأوفر لعملي التدريسي ولبحثي كل الإمكانات دون إزعاجه فهو لم يكن يعرف ولا أنا كنت أعرف المستحيل. ولكن من المضحك أن يشكو له أحد طلبته في الماجستير من عدم تمكنه من الحصول على مادة كبريتات الحديدوز، فلا ينظر إليه الدكتور أحمد الشاذلي وإنما وجه نظره إلى لا شيء قائلا: "هات شوية مسامير مع حامض كبريتيك واصنع منهم كبريتات حديدوز"!!! ولقد خجل الطالب من نفسه واستطاع الحصول على المادة بالسعي الجاد. لقد كان شديدا مع نفسه أولا ومع أولاده ومع تلاميذه. انه بالفعل لم يكن يعرف المستحيل. لم يكن من نهجه إلقاء عبارات الثناء والمديح على أولاده ولا على تلاميذه وان كان سعيدا بهم. فلم أسمع منه كلمة "فيرى جود" إلا المرة الأولى والأخيرة عند أول لقاء في معمل الطلاب عندما كان عمري 17 عاما. ومع ذلك فقد كانت علاقته حميمة مع تلاميذه وكنا نتفاخر ونشعر بالزهو لأننا تلاميذ ومن مدرسة الدكتور أحمد الشاذلي. لم يبد إعجابه مرة واحدة بأدائي برغم الحب والود والاحترام الذي كان بيني وبينه. وبرغم كل الحب والود والاحترام وبرغم اننى كنت أعامله كأبى إلا أننا كنا نتعامل كرجل لرجل. كنت على وشك إنهاء الدكتوراه تحت إشرافه لولا استدعاء القوات المسلحة المتكررة المتلاحقة بعد حرب أكتوبر التي دفعتني للسفر للتحضير للدكتوراه من جديد في سلوفينيا. وعندما عدت من البعثة أخذ نسخة من الدكتوراه وقرأها وأبدى سعادة غامرة بالموضوع وقد اعتبرت ذلك جائزة كبرى.
ظل الدكتور أحمد الشاذلي يجاهد ويدافع عن الحق والسمو بالمنهج العلمي منذ عرفته حتى آخر اجتماع ضمنا في مجلس القسم قبل أن يبتليه ربه بمرض سرطان العظام شديد الألم.
وكعادته كان أسدا حتى فى المرض الذي أدعو الله تبارك وتعالى أن يكون كفارة له وطهورا. كنت في ذلك الوقت- منذ ثلاث سنوات- قد أتممت الإشراف على رسالة ماجستير عن تأثير عصير الثوم على تناسل حشرة دودة ورق القطن حيث حصلنا- أنا وتلميذتي ابنتي المهندسة دينا عبد الحميد- على نتائج مذهلة. فقد كان عصير الثوم يقضى تماما وبنسبة 100%على المقدرة التناسلية لفراشات دودة ورق القطن. كنت أزور الدكتور أحمد في المستشفى وهو على فراش المرض وقلت له يوما لاعطاءه الأمل اننى أطمع أن يناقش تلك الرسالة ولخصت له نتائجها. عقب ذلك العالم العملاق على تلك النتائج وهو تحت تأثير مخدّر المورفين قائلا: "لقد خلق الله الطبيعة وجعل فيها الحلول لمشاكلها". بعد أسبوع صعدت روح العالم الفذ العملاق الطاهرة إلى بارئها بعد عمر يناهز 85 عاما قضاها من جهاد إلى جهاد.
عفوا، لقد نسيت أن أقول لكم أنّ ذلك العالم العملاق كان ابن عم الفريق سعد الدين الشاذلي البطل الفذ وعملاق وقائد حرب أكتوبر 1973، رحمهما الله وجعل الجنة مثواهما. لا أنسى مطلقا أنني عندما نزلت من جبهة القتال، بعد فض الاشتباك الأول بيننا وبين العدو الصهيوني الخسيس، في إجازة خاطفة مدتها 36 ساعة كيف استقبلني ذلك الأستاذ الحبيب بالفرح، وكيف أصر على الاحتفال بى في المعمل فقلت له أن الوقت ضيق للغاية وأنني بصدد المرور على أسر وأهالي جنودي لأطمئنهم على أبنائهم في الجبهة. أصرّ الرجل على حفل قصير قرأ فيه القرآن ودعي إليه الأساتذة والزملاء وألقيت الكلمات قبل أن أعود إلى الجبهة في نفس اليوم. وكان في المعمل أخي وصديقي الحبيب الشقيق السوداني نبيل حامد حسن بشير، وكان زميلي في المعمل يحضر الماجستير تحت إشراف الدكتور أحمد الشاذلي في ذلك الوقت، وهو الآن أستاذ كيمياء مبيدات الآفات في جامعة الجزيرة بالسودان.
لم يكن الدكتور أحمد الشاذلي أستاذي فحسب ولكنه كان أبى وصديقي. اننى أدعو له يوميا مع دعائي لأبى وأمي بالرحمة والمغفرة. أدعو له دائما أن يبارك الله له في حسناته ويتجاوز عن سيئاته ويجعله في أصحاب الجنة. أدعو له بأن يكون قبره روضة من رياض الجنة. أدعو له بأن يمتعه الله بنعيم القبر. أدعو له بأن يباعد الله بينه وبين خطاياه كما باعد بين المشرق والمغرب، وأن يغسله من خطاياه بالماء والثلج والبرد. أدعو له بأن يحشره الله وأبى وأمي مع النبيين والصالحين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. أدعو له أن يجازيه الله خيرا عن العلم النافع وعن أبنائه وعنى وعن تلاميذه وعن كليته وعن جامعته وعن وطنه، وأن يعوضنا الله فيه خيرا. أدعو الله أن يبارك في ذريته حيثما كانوا ووقتما يكونون.
محمد هاشم عبد الباري
8 ربيع آخر 1433
1 مارس 2012