بسم الله الرحمن الرحيم
سيدى وأخى الفاضل الكريم
الأستاذ الدكتور زهير السباعى
حفظك الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد نكأت جرحا غائرا قديما مزمنا لا أعتقد أنه سيندمل قبل أن تنقضى حياة
أمثالى. ولو أنه تمن خاطىء الا اننى اقول لك ليت الأمر كان قاصرا على التعليم
الطبى، ولكن التعليم بالغة الأجنبية (فى مصر بالانجليزية) فى كليات الطب
والصيدلة والهندسة والعلوم. والمشكلة من جانب آخر لا تقتصر على التعليم
الجامعى، ولكن لدينا مدارس اللغات والمدارس التجريبية التى تدرس كل المواد
بالانجليزية أو الفرنسية. وحتى معلم الدين أو معلمة الدين واللغة العربية يناديهما
تلاميذهما فى تلك المدارس بكلمة "مستر" أو "ميس"، يعنى أنهم يقولون
"مستر العربى" أو "ميس"العربى" و"ميس"الدين" أو "مستر الدين"!!!
وتجد أهالى الطلاب يغتبطون ويتيهون فرحا ويتخايلون فى مشيتهم ويتقعّرون
فى جلساتهم حينما يسمعون أبنائهم يتلفظون بألفاظ أجنبية منذ نعومة أظفارهم،
وينهى الأبناء تعليمهم الثانوى وهم لا يعرفون قراءة سطر واحد باللغة العربية
فضلا عن آيات القرآن الكريم. وبحكم مهنتى لا أكون مبالغا أبدا اذا قلت أنّ طالب
الجامعة يتخرج وهو بتلك الحال، ولا أكون كذبت أو شططت أو تعديْت اذا قلت أن
هناك من وصل الى درجة أستاذ فى الجامعة وهو لا يستطيع التعبير بلغة عربية
صحيحة أو غير صحيحة عما يريد قوله. وليس هذا يخص التعليم الطبى او
الهندسى أو العلمى فحسب ولكن فى كل التعليم وحتى فى الكليات النظرية والعلوم
الانسانية. فما رأيكم فى محاضر يريد أن يخبر طلابه بكثرة أحد الأشياء فيقول انها
"موجودة بالهبل"! مثلا.
ولكن مهلا سيدى الأستاذ الدكتور، أنت حينما تذهب الى حلاق لأول مرة مثلا
ويهم بالحلاقة لك فهو يسألك "هل تريد الحلاقة تدريج ولّا كتْ؟"،
واذا ذهبت الى مطعم يسألك النادل "عاوز التشيكين عادى ولّا سبايْسى؟"!
واذا طلبت مشروبا باردا يسألك هل تريد "شاليموه"؟ سألت أحدهم عما يعنى
"شاليموه" ففهمت منه أنه ماسورة شفط العصير!
واذا رأيت شخصا متكدّرا وتسأله عمّا كدّره يقول لك "أصل فلان تنشنّنى"!
وكل من جلس مرة أمام التلفاز يقول لك "الشوز" بدلا من الحذاء (ليس لا مؤاخذة).
كنت راكبا يوما أحد الحافلات الصغيرة (ميكروباص) وكانت تجلس خلفى سيدة
مع ابنها الصغير الذى لا يتجاوز ثلاث سنوات ووقفت الحافلة فى اشارة مرور
وكان بجوارها عربة يجرها حمار (ليس لا مؤاخذة) فسمعنا الطفل يقول لها
"أترين الحمار؟" فقالت له على الفور وكأنه أخطأ فى سورة الفاتحة:
"هذا ليس اسمه حمار انه اسمه دونكى؟" فكدت أقفز من الحافلة وجلست طوال
الطريق وحتى الآن أكاد أتميّز من الغيظ. لم أستطع التعقيب على كلامها لولدها فى
الحافلة لأنها سيدة ولا أعرف كيف يكون ردها أو تعقيب بقية الركاب المثقفون
ولا حتى تعقيب من سيقرأ هذ التعقيب، وهى كانت على الأغلب ستعتبرنى
"دونكيّا متخلفا"! على أية حال أنا اختلط علىّ الأمر من هو الدونكى حقيقة،
فالحمار حريص جدا على لغته وعلى صوته ولا يقبل عنهما بديلا.
انّ الكثيرين من الآباء والأمهات التوت آمالهم وأحلامهم فى شأن أبنائهم
وطموحاتهم فيهم حتى أن الالتواء تغلغل أيضا فى نفوس الأبناء وتلولبت
طموحاتهم هم. فتجد أنّ كل آمال الأب والأم من هؤلاء يحلمون بتعليم الأبناء فى
المدارس الأجنبية وفى مدارس اللغات، ويطربون لسماع الأبناء يتحدثون
باللغةالأجنبية. انّ الكثير منهم قد لا يكون فى مقدورهم المادى الانفاق على ذلك
التعليم فيستدينون ويرهقون وأكثرهم لا يعرفون الانجليزية فيلجأون الى
المدرسين الخصوصين بضعف تكاليف الدروس باللغة العربية. انهم يتصرفون فى
أبنائهم على هذا النحو وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فهم يطمحون فى
تثقيف الأبناء والانتقال بهم الى مرتبة حضارية أعلى وفى ذات الوقت يطمعون فى
أن يجد الأبناء عملا فى البنوك والشركات الأجنبية والقطاع الخاص بأسرع وقت
بعد تخرجهم. انّ الذى يدفعهم لذلك كان ثقافة نظام الحكم أو قل كل أنظمة الحكم
فى العالم العربى. كانت الصحف فى العقود االسابقة بكل منها صفحة اجتماعية،
وكان فى تلك الصفحة باب اسمه"خطبة اليوم" أو "عروس اليوم" ينشر فيه
العرسان أو أهل العروس على سبيل التفاخر (الفشخرة) صورة نصفية يعنى كتْ)
للعروس (فقط دون العريس) أو الخطيبة (فقط) ويدونون اسمها تحت الصورة
وانها عقد قرانها فلان وأن "ثقافتها فرنسية" أو "ثقافتها انجليزية" أو "ثقافتها
ألمانية"، ولكن لم أجد يوما عروسا ثقافتها عربية أو ثقافتها اسلامية!
نحن كنا نتأفف منذ زمن ونضيق بالعربية وتضيق العربية بنا. أما الآن فينشرون
صور الأحضان والقبلات والملابس الفاضحة وشبه العارية والسلوكيات الشائنة
فى صفحات الاجتماعيات ومن تلك الصور تستطيع أن تفهم نوع الثقافة!
لقد كان النظام السابق فى مصر لا يحب ولا يحترم ولا يوالى الا الغرب وكاد أن
يجعل التعليم كله أجنبيا ودفع الناس الى ازدراء واحتقار ونبذ التعليم بلغتنا العربية
الوطنية. انّ أنظمة الحكم هى السبب فى فساد التعليم وغير التعليم. انها هى التى
انحرفت بأحلام الناس وبتطلعات الناس الأغنياء منهم والبسطاء.
انه الاجرام المنظم والتصميم على العمالة.
ولكن، أنا لا أستحى من قول الحق واعلان رأيى بصراحة، وأعتقد أنّ الكثيرين
سوف يمتعضون ويخالفوننى الرأى اذا قلت أن الأطباء أنفسهم هم الذين يريدون
تعليم الطب باللغة الأجنبية، الا من رحم ربى. فهذ التعليم يجعلهم –من وجهة
نظرهم غير المعلنة - متميزون. انّ الأعذار التى يسوقها الكثيرون ممن يريدون
التدريس بالانجليزية سواء فى الطب أو غير الطب لتبرير الاستمرار فى ذلك كلها
أعذار واهية وليس هذا وقت مناقشتها. ولكن لا يخفى على أحد من أهل العلم أن
المصطلحات العلمية ليست بأى لغة غربية ولكنها باللغة اللاتينية التى لا
يستخدمها أى شعب فى الكرم أو التفاهم وانما فى المصطلحات فحسب.
لقد كنت أدرس الدكتوراه فى كلية الطب بجامعة ليوبليانا عاصمة جمهورية
سلوفينيا. سيدى الأستاذ الدكتور لقد ضربتم حضرتكم مثلا بدولة فنلندا ذات
الخمسة ملايين. ولكننى سأضرب لك مثلا أكثر صراخا. كانت جمهورية سلوفينيا
احدى جمهوريات يوجوسلافيا السابقة الست. فكانت يوجوسلافيا فى ذلك الوقت
تتكون من 6 جمهوريات لكل منها لغتها الخاصة ولم تكن يوجوسلافيا كلها تزيد
عن 18 مليون نفس. كانت كل جمهورية تدرس الطب وجميع علومها خلاف
الطب بلغتها المحلية الخاصة. كانت جمهورية سلوفينيا أقل من 3 ملايين نفس!
ومع ذلك كانت كليات الطب فى يوجوسلافيا متميزة علميا للغاية وكان المركز
الاكلينيكى الطبى فى ليوبليانا يكاد أن يكون أول مركز فى أوربا ويأتيه المرضى
من كل أنحاء أوربا للعلاج وبخاصة فى جراحة العظام. كان الأطباء يتحدثون الى
مرضاهم ويتحدثون الى بعضهم البعض بلغتهم السلوفانية فقط والتى لا يتحدث بها
فى العالم كله سواهم. كنت أحضر الدكتوراه فى معهد (قسم) أمراض وظائف
الأعضاء (الباثوفسيولوجى)، وكان عدد الطلاب فى المعهد من السلوفانيين 7
طلاب فى الصف الثالث الدراسى! كان الأساتذة فى كل الجامعة يحوّلون كل العلوم
من كل اللغات ويدرّسونها لأعداد محدودة جدا من الطلاب بلغتهم ويحتلون أماكن
بارزة فى المجلات والدوريات والمؤتمرات العالمية.
سيدى الأستاذ الدكتور زهير، انك قلت فى رسالتك كل ما كنت أريد قوله فأوجزت
وأنجزت ولكن، انه ليحزننى بل يقتلنى أن أجد كل تلك الارادة والاخلاص وعدم
الاستسلام للأعذار الواهية من شعب لا يزيد عن خمسة ملايين أو آخر لايزيد عن
ثلاثة ملايين. واذا كان الشعبان فى الدولتين متجانسين فى هاتين الدولتين فان
الأنكى من ذلك أن يكون شعب مكون من شراذم لمامة لكل شرذمة لغتها وعادتها
ولكنهم يشحذون همتهم ويبذلون طاقتهم ويشمرون عن سواعدهم لعبرنة كل
العلوم فى جامعاتهم، ولا تمنعهم محليّة لغتهم فى التعليم عن مزاحمة أرقى
الجامعات فى العالم.
ماذا أقول عنا؟ أقول أن 350 مليون عربى يتحدثون لغة واحدة ويدينون بدين
واحد ويتأرخون بتاريخ واحد ولا يستطيعون أن يقفوا صفا واحدا ولا يستهدفون
هدفا واحدا ولا يتعلمون بلغتهم – وأىّ لغة تلك- أقول متحسرا بئست تلك
الملايين، أقول انهم ملايين من المسوخ، أقول أنّ بطن الأرض لهم خير.
إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا .. ليسَ الفَتَى مَنْ يقولُ كان أبي
رضى الله عنك يا على بن أبى طالب وأرضاك وكرّم الله وجهك
اننى أجدنى مدفوعا الى اعادة ارسال مقالتى عن اللغة العربية التى سبق نشرها
فى بيت عطاء الخير الموقر منذ سنوات بعنوان:
"أيتها الجميلة.. الرائعة الى أين؟"
اللهم اهدنا فيمن هديت
محمد هاشم عبد البارى
السادس من جمادى الآخر 1434
17 أبريل 2013
الأخ البروفيسور / زهير السباعى
في ركني
بأي لغة نتعلم الطب
سكان فنلندا لا يكاد يتجاوز عددهم خمسة ملايين نسمة،
لغتهم محدودة الانتشار لا يكاد يتحدثها بها أحد غيرهم.
ومع هذا فهم يتعلمون علومهم بها بدءا من الروضة وانتهاء بالتعليم العالي
بما في ذلك الطب والعلوم الطبية.
ألا يحز في نفسك كما يحز في نفسي ويصيبك القهر كما يصبني
عندما ترى أننا أمة يربو عددنا على 350 مليون عربي ولغتنا أثرى
لغة عرفتها البسيطة وما زلنا نتعلم الطب في كلياتنا بلغات أجنبية..
باللغة الإنجليزية في المشرق العربي، وبالفرنسية في مغربه
وبالإيطالية في الصومال. لا أعرف يقينا ما المبرر.
إلا ما سبق أن قاله ابن الخلدون :
« إن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه ».
وما قاله ابن حزم :
« إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها
ودخول غيرهم في مساكنهم ».
طالب الطب في فنلندا يدرس جميع علومه باللغة الفنلندية
وفي الوقت نفسه يبدأ في دراسة اللغة الإنجليزية في سن العاشرة
ولا يتخرج من جامعته إلا وقد أجادها وربما أجاد لغة أخرى إلى جانبها.
قد تسألني ماذا يفعل طالب الطب في فنلندا حيال التعابير الطبية.
أجيبك بأنه يقرأها في أصلها اللاتيني أو غيره من أصول التعابير العلمية،
حيث توضع بين قوسين.
ولكن لا يذهب بك الخيال بعيدا فتظن أن التعابير الطبية غالبة في كتب الطب
فهي إذا استثنينا التكرار- لا تزيد نسبتها عن 3.8 % من مجموع الكلمات
في أي مرجع طبي.
ترى لماذا تتعلم كل أمة متحضرة الطب بلغتها إلا نحن.
هذا ما يفعله السويديون والدنمركيون والنرويجيون والهولنديون
واليونانيون.. حتى دويلة إسرائيل أحيت لغتها العبرية من العدم
وأصبحت تدرس بها كل العلوم في جامعاتها
طلبة الطب في كل هذه الدول يتقنون لغة أجنبية أو أكثر.
علينا أن نفرق بين أمرين أن نتعلم لغة أجنبية وأن نتعلم بلغة أجنبية.
يجب على شبابنا أن يتعلموا بل يتقنوا لغة أجنبية أو أكثر حتى يستطيعوا
التواصل مع العالم الخارجي.
أما أن نعلمهم الطب وغيره من العلوم بلغة أجنبية فأمر أقل ما يقال فيه
أننا لن نتقن العلم بلغة أجنبية كما لو تعلمناه بلغتنا الأم. وإذا كانت اللغات
الفنلندية والسويدية والنرويجية والعبرية قادرة على استيعاب العلوم الطبية
وغيرها من العلوم فمن باب أولى أن تكون لغتنا العربية الجميلة قادرة
على ذلك وهي أثرى من كل هذه اللغات مجتمعة.
البعض منا لا يفتأ يردد « هؤلاء غير».
يريد بذلك أن يقول هؤلاء متقدمون ونحن متخلفون.
بالله عليك كيف نتقدم إذا لم نعن بلغتنا ونتعلم بها ونطور مفرداتها العلمية
لنواكب بها العصر وإذا كان طلاب الطب في هذه الأمم قادرين على
تعلم اللغات الأجنبية وإتقانها، فهل يعجز طلابنا عن ذلك.
شيء آخر .. التعليم الطبي الحديث يعتمد على الحوار أكثر
مما يعتمد على المحاضرات .. ولن يستطيع إنسان أن يحاور ويناقش بلغة
أفضل من لغته الأم. أما البعض الآخر فيضرب لك مثلا باليابان
وكيف أن المطابع تخرج في كل يوم تراجم لما يجد من بحوث طبية.
القصور كما تعلم وأعلم ليس في المطابع وإنما فينا.
في عدم تشجيعنا للتأليف باللغة العربية والترجمة إليها..
رحم الله عصرا كانت الكتب المترجمة إلى العربية من لغات اليونان
والهند وفارس يكال لأصحابها وزنها ذهبا.
هذا عصر مضى فهل له عودة.