بسم الله الرحمن الرحيم
من ذكريات المدرج..
أنا من الحزب الوطني يادكتور!
الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد الباري
^^^^^^^
الحشرات عالم جذاب ومحيّر في أمره، ويدعو إلى التأمّل والتفكر والتدبّر، ليس في تنوعها وفى أشكالها وألوانها وتكوينها، وليس في حياتها وسلوكها ومعيشتها وبيئاتها وملائماتها في الشكل والتركيب لنمط حياتها. ليس كل ذلك فحسب وإنما كذلك في وظائف أعضائها وآليّاتها في تأدية تلك الوظائف، وهو ما يطلق عليه علم وظائف الأعضاء أو "الفسيولوجي"، وذلك هو تخصصي، فتخصصي هو علم وظائف الأعضاء في الحشرات، وبالتعبير العلمي هو "فسيولوجيا الحشرات
"Insect "Physiology".
. لقد استهوتنى كلية الزراعة وعلومها فهي بحق أم الكليات، والزراعة في الحقيقة وبلا شك هي أصل الحضارات، واستهواني في كلية الزراعة قسم الحشرات الاقتصادية Economic Entomology، واستهواني في علوم الحشرات علم فسيولوجيا الحشرات، واستهواني في فسيولوجيا الحشرات فسيولوجيا الأعصاب Neurophysiology! لا عجب. فلقد اجتذبت الحشرات طبيبا انجليزيا فافتتن بها، واستحوذت على كل اهتماماته فهجر الطب وعكف على دراسة الحشرات وحياتها ووظائف أعضائها في العشرينات من القرن الماضي، فكان أن أصبح هو العالم الأشهر في الحشرات "السير فنسينت ويجليسويرث" مؤسس علم فسيولوجيا الحشرات في العالم!
كثيرا جدا ما يسألني الآخرون في بداية التعارف وبخاصة الأساتذة الجامعيين عن تخصصي عندما يعلمون أنني أدرّس في كلية الزراعة، ثم يتعجبون ويندهشون ويعقدون حواجبهم عندما أقول لهم أنني أدرّس في قسم الحشرات الاقتصادية، فأكون مجهزا سلفا لشرح الاسم! أنهم، وعلى الأرجح أنتم كذلك، سوف تتركون الحشرات وتمسكون بالاقتصادية!
إن كلمة "اقتصاد" في اللغة: من "القصد" وهو التوسط والاعتدال (المعجم الوسيط مادة قصد) ، ومنه قوله تعالى: "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ" (سورة لقمان الآية 19)، والقصد في الآية منزلة بين التفريط والإفراط ، وبين التقتير والإسراف، هذا في اللغة أيضا.
أما في الاصطلاح فعرّفه "آدم سميث" (عام 1776) : بأنه "علم الثروة أو العلم الذي يختص بوسائل اغتناء الأمم". ويعرّفه "روبنز" (عام 1932): بأنه "العلم الذي يبحث في سلوك الفرد تجاه حاجاته المعتادة ووسائله المحدودة ذات الاستعمالات المتنوعة". أي أنه العلم الذي يدرس كيفية تلبية الناس لحاجاتهم وإشباعهم لرغباتهم المختلفة.
أما في الاصطلاح فعرّفه "آدم سميث" (عام 1776) : بأنه "علم الثروة أو العلم الذي يختص بوسائل اغتناء الأمم". ويعرّفه "روبنز" (عام 1932): بأنه "العلم الذي يبحث في سلوك الفرد تجاه حاجاته المعتادة ووسائله المحدودة ذات الاستعمالات المتنوعة". أي أنه العلم الذي يدرس كيفية تلبية الناس لحاجاتهم وإشباعهم لرغباتهم المختلفة.
وأعتقد أنّ الاقتصاد في النهاية يترجم إلى ربح وخسارة، ومنفعة وضرر، وفقر وغناء، وضنك وشقاء وراحة واسترخاء، وعذاب ومتعة!
قدّرت منظمة الصحة العالمية عام 1972 نحو 100مليون
حالة ملاريا في منطقة جنوب شرق آسيا، 70% منها تحدث في الهند، وفى عام 1947 قدّر نحو 75 مليون شخص عانوا من الملاريا في الهند بنحو 800 ألف حالة وفاة. الدراسة عن الخسائر الاقتصادية الراجعة إلى الملاريا قالت أنّ الملاريا كانت مسئولة عن نحو 750 مليون دولار في ذلك الوقت (مرض، ضرر، عذاب، كبد، معاناة، عطالة، خسائر، موت). كل ذلك بسبب نوع من البعوض (حشرات) ينقل الملاريا للإنسان عند اللدغ!!!
أعتقد أنك سوف تكون في غاية السعادة عندما ترى زوجتك أو ابنتك ترفل في فستان من الحرير "الطبيعي" الذي ثمن المتر منه آلاف الدولارات، والمصنوع من شرانق دودة حرير القز (حشرات). وقد يضفى عليها شيئا من الرقة ولو إلى حين! وبالتأكيد أن زوجتك أو ابنتك سوف تتباهى وتتفاخر(تتفشخر) به عند الأخريات من نساء وبنات الأقارب والأصدقاء والجيران! (ربح، منفعة، جمال، رومانسية، بهجة، بهاء، راحة، متعة، انسجام، فشخرة!).
أعتقد أنّ مفهوم الحشرات الاقتصادية قد وصل. إن الأمثلة على منافع وعلى مضار الحشرات لا تنتهي، وقد يكون لنا معها حديث إن شاء المولى عزّ وجلّ.
من بين المليون نوع من الحشرات التي عرفها وعرّفها وكشف عنها الإنسان نحن نقوم في "قسم الحشرات الاقتصادية" بتدريس أكثر من 300 نوع من أهم الآفات الحشرية والحشرات النافعة في البيئة المحلية الزراعية وغير الزراعية للطلاب في مقرر "الحشرات الاقتصادية"، علما بأننا نقوم بتدريس عشرات العلوم المتعلقة بالحشرات. ظللت أدرّس ذلك المقرر طوال سنوات عملي بكلية الزراعة وحتى الآن بجانب علوم "فسيولوجيا الحشرات" وغيرها. وللمعاونة في تدريس "الحشرات الاقتصادية" لدينا مجموعة حشرية محنطة ومتحف متواضع في القسم، ونطالب الطلاب الدارسين للمقرر بجمع مجموعة حشرات من البيئة المحيطة وتصبيرها وتعريفها ودراستها والإلمام بها. هذه المجموعة الحشرية يقدمها الطلاب في نهاية الفصل الدراسي الجامعي ونمنحهم فيها درجات في إطار أعمال السنة.
في أحد أعوام أواخر التسعينات من القرن الماضي، وقد كنت مسئولا عن تدريس مقرر "الحشرات الاقتصادية" نظريا وعمليا، وفى أواخر الفصل الدراسي جاء إلى مكتبي السيد البروفيسور رئيس القسم، وكان يكبرني بعدة أعوام، غاضبا ومستاء. بلغني أنّ أحد طلاب المقرر قد كسر قفل أحد دواليب عرض الحشرات في بهو القسم وسرق بعض الحشرات المحنطة. وأخذ رئيس القسم يهدد ويتوعّد ذلك الطالب المجهول بالويل والثبور وعظائم الأمور، وأخذ يهدد بأنه سوف يفعل كذا وسوف يفعل كذا في كل الدفعة إذا لم يحددوا الطالب الذي فعل ذلك. أخذت في تهدئة الرجل الذي لم أعلم بذلك الشأن إلا منه في تلك اللحظة، وهوّنت عليه الأمر، وطلبت منه أن يترك هذا الأمر لي وسوف أقوم بحل المشكلة.
كان عدد هؤلاء الطلاب الدارسون للمقرر نحو 560 طالبا وطالبة. وكنت أحاضرهم في مدرج كبير أسبوعيا من السادسة إلى الثامنة مساء. لم أقم بأي إجراء بخصوص تلك الواقعة حتى حان موعد محاضرتي لهم بعد أربعة أيام من ابلاغى. دخلت المدرج في موعد المحاضرة بالضبط كالعادة. وقفت على المنصة صامتا أنظر إلى الطلاب لمدة دقيقتين فكان الطلاب وكأن على رءوسهم الطير واعتراهم الوجوم. لم يكونوا يعرفون بتلك الواقعة، فبالطبع لم يقل لهم أحد ولم يفشى الطالب الجاني عمّا فعل. انه سرق تلك الحشرات لكى يقدّمها في مجموعته الحشرية وينال عليها درجة.
كنت متكدّرا بالفعل من تلك الفعلة. وكنت أعتبر الطلاب دائما هم أبنائي بالفعل. وكان الكثيرون من الطالبات والطلاب ينادونني أو يكتبون لي باسم "أبى". لقد كنت أشعر في قرارة نفسي بأن أحد أبنائي الذين قمت بتربيتهم وأحببتهم هو الذي فعل تلك الفعلة. لقد كان شعوري واحساسى أنّ الأمر يخصني أنا، وأن ذلك العار قد لحق بى أنا شخصيا. كنت أغار على طلابي وأحبهم ولم أكن أتخيّل أن يصدر من أيّهم ماصدر.
ومع ذلك، ومع المرارة التي لحقت بنفسي، فقد قلقت عليهم من وجومي وصمتي في المدرج، وقلقت على توجّسهم، تحاملت على نفسي وأقرأتهم السلام كالعادة في محاضراتي. ثم سميْت الله وحمدت الله وأثنيت على الله وصليت على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، كالعادة أيضا عندما أبدأ المحاضرة. ثم حدثتهم عمّا بدر من أحدهم، وعن عدم تخيّلي لما حدث، وأبلغتهم تهديدات السيد الدكتور رئيس مجلس القسم، وأبلغتهم استياء كل أساتذة القسم والفنيين والعاملين فيه. كل ذلك وسط محيط من الصمت الرهيب من الطلاب. ثم تكلمت معهم عن الأمانة، وعن الشجاعة، وعن الرجولة، وعن الفضيلة، وعن الكذب والإيمان، وعن نوعية الإنسان المسلم. كل ذلك وهم واجمون. وأخيرا قلت لهم: "درجاتكم أمانة عندي أمام الله. لن أهدد بصعوبة الامتحان كما يفعل البعض. لن آخذ البريء بذنب المذنب. أبدا. لن أفعل أي شيء. أبدا. ولن أسمح لغيري أن يفعل شيء ضدكم. أبدا. لن يأتيني ذلك الابن ليعترف لي على انفراد. أبدا. سأطلب شيء واحد فقط، وربما يكون أصعب من أي شيء يمكن أن يتخذ ضدكم بسبب تلك الفعلة. سأستدير إلى ناحية السبورة وأعطيكم ظهري لمدة دقيقة، وسوف يقف بينكم الطالب الذي فعل ذلك لتعرفوه، حتى تعرفون المذنب وتشعرون ببراءتكم. وحتى لا ينظر بعضكم إلى بعض في شك، وحتى لا يشعر أحد منكم أنه مشكوك فيه. والآن أستدير، فليقف الابن المذنب لفترة كافية لتنظروا إليه وليجلس قبل أن أستدير لكم ثانية، فأنا لايهمنى أن أعرفه، ولو عرفته فلن أفعل شيئا" واستدرت وأعطيتهم ظهري.
بمجرد أن أعطيتهم ظهري سمعت همهمة للمدرج لم تلبث أن توقفت، وغرق المدرج في صمت رهيب. حقيقة لم أعرف كم لبثت على ذلك الوضع ولكن الوقت الذي مرّ على هكذا قد يكون أكثر من ثلاثة دقائق. ومن شدة الصمت أعتقد أنّ عيناي كانتا قد غفلتا، فلقد شعرت أنني كنت وحدي في المدرج مقبورا. وربما أفقت من غفوتي معتقدا أنني كنت وحدي في المدرج في جنح الليل. ثم استدرت لهم ثانية. ياللهول. لقد وجدت طالبا في وسط المدرج واقفا في انكسار، والطلاب كأنّ على رءوسهم الطير، واجمون ومرتعدون ويمسحون دموعهم في صمت. ياللهول. ماكنت أتوقع أبدا أن يحدث ذلك. مطلقا. وقف الطالب الشاب ليرى نفسه لزملائه ولى ويعترف بذنبه في صمت، ليقول بجسده وبروحه وليس بلسانه "أنا الفاعل"، "أنا السارق"، "أنا المخرب". لم يستح ذلك الشاب من نظرات المئات، لا تقل من زملائه بل قل من زميلاته الشابات! ياللعجب! لم يأبه ذلك الشاب إن كنت قد أضعف وأتراجع وأحنث في وعدى فأوقع به أشد العقاب؟ أبسط العقاب كان الفصل من الكلية وضياع المستقبل وهو فى السنة الرابعةعلى وشك التخرج. لم يكترث أن يصل الأمر إلى والديه فيسبب لهما الإحراج والعار؟ لم يهتم ببكاء زميلاته وزملائه الصامت وقلقهم عليه فيجلس قبل أن أستدير وأراه؟ كان يمكن أن يتعلل لنفسه أنه لم يكن موجودا فى تلك المحاضرة وكان غائبا. كان يمكن أن يتعلل لنفسه أنه لن يعرفه أحد. انه لشيء عجاب!
كل ذلك جال بخاطري بسرعة البرق فدمعت عيناي وأشرت بيدي قائلا فى انفعال شديد: "هذا هو الإسلام، هذه هي الرجولة، هذا هو الشباب المسلم، هذه هي الشجاعة، اجلس يابنى، باركك الله". قبل أن أكمل كلامي كان المدرج قد انفجر في البكاء، طالبات وطلبة!
لقد استغرق ذلك الموقف من وقت المحاضرة نحو عشرين دقيقة، وهى تساوى مجموع وقت الراحة. فالمحاضرات عندنا ساعتان لكل ساعة عشر دقائق راحة. في اعتباري أن ثلث الساعة تلك لم تكن أهم من المحاضرة فحسب ولكنها كانت أهم من الفصل الدراسي كله. أعطيت محاضرتي كاملة في الزمن المحدد لها بالضبط وصرفت الطلاب، تعوّد الطلاب منى أن يجلسوا خلال المحاضرة بفاصل فى المدرّج بين الطالبات والطلبة، وأن أصرف زميلاتهم بالكامل أولا ثم أصرف الطلاب الذكور بعدهم.
ذهبت بعد المحاضرة إلى مكتبي لأكمل برنامجي اليومي وكان لدى عمل أنجزه. مكتبي داخل معملي والمعمل منفصل عن بقية القسم ويطل على حدائق الكلية مباشرة وكان الظلام خارج المعمل دامسا. كنت منهمكا في قراءة أحد التقارير العلمية حينما شعرت بحركة وأن أحدهم يقف بباب المعمل في الظلام. رفعت رأسي ونظرت صوب الباب فإذا بشاب يقف بالباب ينظر إلىّ.
قلت له: "من أنت يابنى وهل من خدمة أؤديها لك؟"
قال لي: "أنا الطالب المذنب الذي وقف في المدرج في المحاضرة"
كنت قد نسيت شكله وملامحه حينما وقف في المدرج وسط زملائه. فقد كنت صادقا في وعدى ولم أكن أبدا غير صادق، بل كنت قد نسيت الموضوع برمّته بعد أن ألقيت المحاضرة. وقبل أن
أتكلم أنا مع الطالب أردف قائلا:
"أنا من الحزب الوطني يا دكتور"
وقبل أن أردّ عليه كان قد أبرز بطاقة عضوية الحزب الوطني مناولا لي إياها قائلا:
"أرجو أن تمزقها أنت بنفسك يادكتور"
نظرت للبطاقة في يدي وقلّبتها بين أصابعي وكانت بطاقة فخمة من البلاستيك المقوّى الذي صنعوا منه بطاقات الرقم القومي بعد ذلك بسنوات!
قلت له على الفور: "لا، بل احتفظ بها يابنىّ ولا تستغلها إلا في الخير"
تناولها الطالب منى في تردد وكأنه غير مصدق لما سمعه منى، ثم صافحني معانقا وانصرف. لم أر ذلك الطالب بعدها مطلقا، وربما كنت أراه، وبالتأكيد كان يحضر المحاضرات، وبالتأكيد امتحنته شفهيا وعمليا، ولكنني لم أتذكر شكله ولا ملامحه، ولم يكن يعنيني ذلك. ولكنّ خريجي تلك الدفعة كانوا يحضرون إلى على فترات ويعرفوني بأنفسهم بأنهم من الدفعة التي "بكى فيها المدرج"، ومن يعرف ؟ ربما كان ذلك الطالب بينهم عندما كانوا يزورونى، دون أن أدرى!
بعد أسبوع تقريبا من ذلك الموقف جاء إلىّ البروفيسور رئيس مجلس القسم يسألني عن الإجراء الذي اتخذته في واقعة الطالب الذي كسر الدولاب وأخذ الحشرات. قلت له أنني فعلت اللازم فلاذ بالصمت، ولم يسألني هو أو أحد غيره بعد ذلك أبدا.
لا أدرى إن كان ذلك الطالب قد غلبته نفسه الأمّارة بالسوء واستمر في عضوية الحزب الوطني ونال بعض المنافع والمناصب والسلطة والفلوس وأصبح الآن من الفلول، أم تغلبت شجاعته على المطامع وترك الحزب، ولكنني أحبه مثل بقية الطلاب وأدعو له ولهم بالخير والهداية.
هؤلاء هم طلابنا، وهؤلاء هم شبابنا، وهؤلاء هم أبناؤنا
عندما يكتنفهم المناخ الطيب ويصادفون القدوة الصالحة ويبتعد عنهم شياطين الإنس. يظهر بريق الذهب عندما تنفض من عليه التراب.
من سلوك الوزغ (البرص أو البرعص أو أبو بريص) عندما يشعر بالتهديد والخطر أن يفصل ذيله الذي يتلوّى ويتركه يتلوّى ويهرب، فيتلهّى فيه الناس ويظنون أنهم قد قضوا على الوزغ، وينشغلون عن بقيّة جسم الوزغ الذي يكوّن لنفسه ذيل جديد! لقد ترك الحزب الوطني لنا ذيله نتلهّى به ومضى ليستأنف حياته بذيل جديد!
محمد هاشم عبد البارى
21 شوّال 1432 ه
19 سبتمبر 2011 م