توفى إلى رحمة الله تعالى الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى يوم 5 يناير نسألكم الدعاء له بالرحمه والمغفرة

الجمعة، 24 فبراير 2012

دعوة للعشاء / أ . د محمد هاشم عبد البارى

بسم الله الرحمن الرحيم

من ذكريات بعثة الدكتوراة..
دعوة للعشاء

الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد الباري
7777777

كنت مبعثا لتحضير الدكتوراه في كلية الطب بجامعة ليوبليانا عاصمة سلوفينيا عام 1975 في كيمياء الأعصاب في الحشرات.
مادة "الأسيتايل كولين" هي المادة الكيميائية إلى خلقها الله في أطراف الخلايا العصبية - تلك الخلايا المتفردة في الخلق من بين جميع الخلايا الأخرى في الكائنات الحية.  لقد خلق الله تلك الخلايا العصبية وجعلها تصنّع مادة "الأسيتايل كولين" لتقوم بوظيفة الناقل الكيميائي للأوامر العصبية من خلية عصبية إلى أخرى عبر الجلد والحواس إلى الدماغ (المخ) والحبل الشوكى، ومنها إلى العضلات والغدد لتنفيذ الأوامر بالقيام بالاستجابة وردود الأفعال المختلفة.  مادة "الأسيتايل كولين"  تصنّعها الخلية العصبية من مادة "الكولين" و"حمض الخليك" (أسيتيك أسيد).  مادة "الكولين" لا تستطيع الخلية العصبية تخلقيها بداخلها وإنما تحصل عليها من خارج الخلية من الغذاء.
كان موضوع الدكتوراة هو الكشف عن آلية إدخال مادة "الكولين" من خارج الخلية العصبية إلى داخلها عبر الغشاء الخلوي ومن ثمّ تخليق الناقل الكيمائي العصبي منها وهو "الأسيتايل كولين".  كان ذلك الموضوع هو أول عمل من نوعه في الجهاز العصبي في الحشرات على نطاق العالم ولم يسبقه البحث في دماغ الفأر إلا بثلاث سنوات فقط !


خصص لي معملا مستقلا،  وبدأت العمل لدراسة المشكلة على ذبابة من الذباب آكل اللحم يسمى "كالليفورا اريثروسيفالا" وكنت أربيها على معلبات اللحم "بيف" المعد للقطط والكلاب، والذي كان "توفيق عبد الحي" في السبعينات من القرن الماضي  يستورده من أوروبا ليطعمه للمصريين في ذلك الوقت !
ففي الحقيقة لم يأكل القط اللحم !!!  تأفف الزملاء في المعامل والمكاتب المحيطة بمعملي من الروائح المنبعثة من تربية دود الذباب على اللحم فلم أشأ أن أضايقهم، واضطررت إلى انجاز الدراسة على حشرة أخرى تتغذى على امتصاص الزيوت من أنواع من البذور النباتية تسمى "أونكوبيلتوس فاسكياتاس".



سار البحث على مايرام وكان توفيقا أحمد الله عليه كثيرا في كل حين وآن،  والى الآن بالطبع، وكان ذلك باعثا على إعجاب الأساتذة المشرفين وعميد المعهد (معهد الباثوفسيولوجى بكلية الطب جامعة ليوبليانا).  رزقني الله بابني الأول عام 1977 أثناء الدراسة فقررت أن أسميه "إسلام" (هو الآن يحضر دكتوراة في جراحة المخ والأعصاب) وقد كان ذلك الاسم الذي سميته له إصرارا بالالتزام بالإسلام وحبا للإسلام في أرض الكفر.  هنأني الأساتذة المشرفون والعميد وجميع الزملاء وقدموا لي الهدايا والنقود الكثيرة التي بذلت جهدا كبيرا في ردها باختلاق المناسبات. (في اليوم الأول لوصولي للجامعة دعاني أحد الزملاء السلوفانيين لتناول طعام الإفطار في أحد المطاعم، وظللت أبحث عنه بعد ذلك لأرد له الدعوة، ولكنني علمت أنه في سفر في مهمة علمية إلى الولايات المتحدة.  وبمجرد عودته بعد نحو ثمانية أشهر وفى أول مقابلة له معي قال لي:  "مستر هاشم هل تذكر أنني دعوتك على الإفطار يوم وصولك" ؟!   فقلت له على الفور: "نعم أذكر ذلك بالطبع، ولذلك فأنا أدعوك اليوم على الغذاء في مطعم كذا"،  وأنفقت على الدعوة أضعاف ما أنفق في دعوته للإفطار !!!).


كان الأساتذة المشرفون والعميد قد دعوني للعشاء في منازلهم تباعا من قبل ولادة "إسلام" فقررت أن أدعوهم في وليمة منزلية بعد ولادته.  وكنت أقيم أنا وأسرتي في شقة والدة أستاذ مشرف من كلية التكنولوجيا الحيوية وهو "ماتياش جوجالا" وكان لي معه مواقف صعبة من قبل ومن بعد.  دعوت البرفيسور العميد (وكان الزملاء السلوفانيون يحذرونني بصفة دائمة من ذلك العميد ويسمونه الثعلب العجوز– وقد كنت الأجنبي الوحيد في معهد الباثوفسيولوجى).  قلت للعميد البروفيسور دكتور "باولين":  "بروفيسور باولين أرجو أن تقبل دعوتي على العشاء في بيتي مع البرفيسور فلان وفلان وفلان وزوجاتكم"،  فوافق على الفور، ولكنني أردفت: "كنت أرجو قبل موافقتكم الكريمة أن أخبرك بأن دعوتي على العشاء دعوة إسلامية".  نظر إلى من خلف عويناته بدهشة واستفسار وشغف لما سأقوله منتظرا أن أستكمل كلامي.  قلت له:  "نعم، هي دعوة على النظام الاسلامى، فسوف تحضرون أنتم وزوجاتكم،  وبمجرد دخولكم البيت ستتوجهون معي إلى غرفة المطبخ (وكانت غرفة كبيرة جدا) وستتوجه زوجتاكم إلى غرفة زوجتي يتناولن معها الطعام وسيظللن معها طوال الوقت وحدهن، وستبقون معي أنتم الرجال طوال الوقت حتى الانصراف.  هذا هو نظامنا الاسلامى،  لا ترون زوجتي ولا تجلسون مع زوجتي ولا أرى زوجاتكم ولا أجلس مع زوجاتكم".  وأضفت: "ولن يكون على المائدة خمر ولا أي نوع من الكحول ولا لحم خنزير، فان ذلك محرم في الإسلام، ولن أستطيع أن أدعوكم في مطعم فان كل ذلك لا يتحقق في مطعم".
أخذ الرجل ينظر إلى بتركيز وأنا أحدثه بكلام خيالي بالنسبة له،  ولكنه قال فور أن انتهيت من كلامي:  "بالطبع سيد هاشم بالطبع،  أنا موافق بالطبع، وسوف أكون سعيدا أنا وزوجتى" (زوجته بروفيسور في الطب أيضا).  قلت له إن موافقته من دواعي سروري ولن أنس ذلك الشرف الذي منحه لي هو وزوجته وحددنا اليوم والساعة.


استأذنت ودخلت على المشرف الرئيسي على رسالة الدكتوراة البروفيسور"ستيفين أداميتش" في مكتبه ودعوته، وشرحت له نظام الدعوة كما شرحت للعميد والموعد المتفق عليه فوافق قائلا "هاشم أنا موافق على الدعوة".
وافق كذلك على تلك الدعوة البروفيسور "بيرزين" المشرف الثاني بكلية الطب.  وكان أخر من دعوتهم هو البروفيسور "جوجالا" من كلية التكنولوجيا الحيوية،  والذي أقطن مع أمه في شقتها (وكان بعد ذلك قد فشل في اجبارى على  إحضار خمر في مناقشة الدكتوراة)،  فوافق على النظام.


في اليوم المحدد وفى الساعة المحددة وفى غضون خمس دقائق كان الأربعة و وزوجاتهم قد حضروا تباعا.  كنت أصافح الرجال فقط وآخذهم إلى المطبخ الكبير وأوجه زوجاتهم إلى غرفة زوجتي التي لم تر أزواجهنّ حتى انصرفوا.  كانت الشقة مرتبة ومزينة وقد قالت السيدة "جوجالا" (84 سنة) وهى أم المشرف البروفيسور "جوجالا": "أنا لم أر شقتي بهذا البهاء من قبل"،  وكانت دائما ما تقول لنا: "لم تكن شقتي بمثل تلك النظافة والترتيب من قبل أن تسكنا معي"!


كانت وليمة كبيرة حقا.  مائدة النساء كمائدة الرجال عامرتين بأطايب الطعام المصري. اللحوم والدواجن المجهزة بالطريقة المصرية،  والفلافل (الطعمية) والملوخية والمحشو (الملفوف) والمشروبات الساخنة والعصائر المثلجة، وحتى الكركديه والشاي والقهوة والفاكهة المتنوعة.  لقد تحيروا في الأكل ، ماذا يأكلون وماذا يتركون، بماذا يبدءون وبماذا ينتهون ! التهموا الفلافل التهاما وقضوا عليها،  أخذوا يشربون الملوخية بالملاعق ولم يتركوا منها شيئا.  أمضوا ساعتين في تناول الطعام.  وخلال تناول


الطعام أمسك العميد بقطعة فلافل وانحنى يسألني: "سيد هاشم،  من أي نوع من اللحوم تلك ؟!  قلت له: "إنها ليست لحما"،  وقبل أن أكمل سألني متعجبا: "إذن فمما هي؟  قلت له: "إنها نوع من البقول Beans نسميه فول وذكرت له اسمه العلمى".  توقف الجميع عن تناول الطعام وأخذوا يستفسرون عن هذا الفول وكيفية تجهيز تلك الطعمية العجيبة، وما إذا كان موجودا لديهم ذلك الفول في سلوفانيا.  أخذت أشرح لهم فطلبوا رؤيته فأحضرت لهم منه، فأخذوا يتفحصونه مليّا ولم يعرفوه،  فقد كان فولا مجروشا،  وأخذ "جوجالا" يتفحصه بإصبعه حتى عثر على قطعة من القشر فشهق وصاح بأعلى صوته: "نعم نعم هذا البقل اسمه "فول الأحصنة"  Horse bean ، وكنا نطعم به الحيوانات منذ مائة عام" !  فصحت أنا أيضا على الفور قائلا: "نعم نعم بروفيسور "جوجالا"، هو كذلك، ولكننا نحن مازلنا نأكله حتى الآن، وقد أعجبكم الآن تماما".   فضحك الجميع والتهموا بقيته (هذا الفول البلدي الذي يتخذونه عندنا مادة للسخرية فى المسرحيات هو ومن يأكلونه، والذي استبدله بنو إسرائيل بالمن والسلوى واشتاقوا إليه، عرفت أوروبا والشرق قيمته الغذائية،  فتزرع منه بريطانيا وألمانيا وأمريكا والصين الآن مساحات شاسعة من أراضيها، وتجرى عليه الأبحاث على قدم وساق ، وثبت لديهم أنه ذو فائدة عظيمة للقولون، وتصدر لنا بريطانيا كميات كبيرة منه سنويا !!!،  ولكنه ليس بجودة ولا طعم الفول المصري الذي يعاير به العرب إخوانهم المصريين، ومع ذلك يشتاقون إليه !! ويستوردونه منهم مدمسا معلبا!!  ويقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "نعم الادام الخل" !).




بعد أن قضوا على كل الفلافل توجه إلىّ العميد البروفيسور "باولين" بسؤال:  "سيد هاشم هل مائدة النساء في الغرفة الأخرى بها فلافل مثل مائدتنا ؟".  نظر إلىّ الجميع في انتظار الرد على ذلك الاستفسار الخطير فقلت له: "بروفيسور "باولين" إنّ للنساء في الإسلام حقوقا تفوق حقوق الرجال ولكنّ القيادة للرجال،  وكثيرا ما يحرم الرجال أنفسهم من أشياء يوفرونها للنساء من الأمهات والزوجات والبنات، نعم سيدي، لديهم على مائدتهم كل ما على مائدتنا بالضبط" (في أوربا وأمريكا كانوا - حتى في ذلك الوقت - يقتسم الزوج والزوجة مصاريف اليوم في كل مساء !!!  ونحن نتخلى عن إسلامنا تدريجيا ونسير في نفس الطريق إلى نفس الجحر).  كان الصمت قد خيّم على المائدة تلك اللحظات، فقال لي بصوت خفيض، وكأنما يحدّث نفسه وكأنما يعاتبني بحرمانهم من الجلوس مع زوجاتهم وغمز لى بعينه: "اننى أسأل فقط لكي أتناقش مع زوجتي في أمر تلك الطعمية الشهية عندما نعود إلى المنزل" !!!


استأنفنا تناول الطعام والتسامر والتحدث في العلم والتاريخ وشتى الموضوعات، وفجأة سمعنا صراخ "إسلام" في غرفة النساء، ولم يتوقف الصراخ.  فمال على العميد البروفيسور"باولين" وطلب منى إحضاره ألينا.  ذهبت فأحضرته فتوقف الطفل عن الصراخ طيلة وجوده معنا وكان عمره خمسة شهور.  سكت العميد قليلا ثم صاح بصوت عال وكأنه حل لغزا وطلسما وقال ضاحكا:  "إسلام كان يبكى لأنه كان في الجانب الخطأ ها ها ها" !!! ضحك الجميع ضحكا طويلا وأخذوا يتلقفون الولد من بعضهم البعض.  أمضينا وقتا طيبا طويلا ولكنني لمست منهم بعض من عدم الارتياح لعدم وجود خمر على المائدة وبخاصة أنّ الطعام كان شهيا جدا بالنسبة لهم وكانوا قد أكلوا كثيرا.
وتمت الدعوة للعشاء
وعلى المنهج الاسلامى

 

أتممت بحمد الله وتوفيقه رسالة الدكتوراة في زمن قياسي وناقشت الرسالة بأفضل مايكون، وبكامل الاحترام، برغم ماتعرضت له من ضغوط لإحضار خمر للمناقشة،  ورفضت، وانتصرت، وناقشت، وعشت.  نعم عشت حتى الآن.  عشت في عزة وإباء ومنعة وكرامة أحمد الله تبارك وتعالى عليها.  لم يمسسني سوء.  لم ينقطع رزقي ولم يقل ولم ينقص شيئا ولو مثقال ذرة أو حبة من خردل.  لم أتخلّ عن ديني ولا منهجي ولا آدابي ولا أعرافي ولا تقاليدي التي تعلمتها وعشتها في ظل الإسلام.  لم أتخلّ عن أي من ذلك في أرض الكفر.  لم أخسر عينا ولا ذراعا ولا رجلا ولا إصبع.  وحتى لو خسرت شيئا من ذلك فلن يكون بسبب التمسك والتعلق والتشبث بالإسلام.

ومما يدعو إلى العجب ويثير الشفقة والأسى أن أفرض اسلامى بالقوة الناعمة في بلاد الكفر والانحلال والإلحاد،  وعندما أعود إلى بلدي، بلد الأزهر الشريف، بلد عمرو بن العاص، حصن الإسلام الحصين، عام 1978 ،وفى أول اجتماع أقترح فصل الطالبات عن الطلبة في المدرجات ومعامل القسم لمنع الاختلاط  أو حتى تخفيفه،  فأواجه برفض شديد وتقريع وازدراء، وكأنني سألقى بهم في مستنقعات التخلف وغياهب الجهل وسأهوى بهم إلى واد سحيق.  لذلك لم يكن أمامي سوى أن أفرض الأمر الواقع فور الخروج من الاجتماع منذ عام 1978 في جميع محاضراتي واشرافى على المعامل وحتى توقفت عن التدريس لطلاب البكالوريوس بعد بلوغ سن الستين.  وبالرغم من أنى حظيت بلقب "المتطرف الكبير" إلا أنني أحب الجميع حبا كبيرا وأكن للجميع المودة والاحترام، وأدعو لهم بخالص الدعاء،  وأحب قسمي وأحب كليتي وأحب جامعتي وأسعد كل السعادة بكل ذلك.  ومن فضل الله تبارك وتعالى أن يتشجع البعض في الكلية كلها ويحذوا نفس الحذو فيما بعد،  بل كان الطلاب أنفسهم يسيرون على نفس النهج في كثير من المحاضرات ويطالبون به الأساتذة.

والسؤال

  هل يتعارض الالتزام بمنهج الإسلام مع العلم ؟
هل عندما يصل المسلم إلى أقصى مراتب العلم لابد أن يصبح خواجة أو متحرر أو علماني أو لاشيئى ؟
هل الالتزام بطاعة الله والسير على نهج الإسلام يجعل من صاحبه قفل ؟
هل لأننا نذهب إلى الخواجات لننهل من العلم الذي أخذوه منّا ونمّوه لن نتعلم العلم منهم إلا إذا أصبحنا مثلهم ؟
كلا وكلا وكلا وكلا
لقد ذهبت إليهم مسلما وعدت مسلما أكثر قوة
أنجزت دكتوراه غاية في التميز ولم أتغير إلا إلى الأفضل إسلاميا
قمت وأقوم بأقوى الأبحاث وأنجزت الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه، ويزداد تمسكي بالمنهج لاسلامى وأعيش في سلام مع نفسي ومع الآخرين
إن تمسكي بالإسلام لم يجعل منى قفلا
إلا إذا كان هناك من يعتبرني كذلك
ولكن تلك ليست مشكلتي
وذلك لا يشغلني ولا للحظة

"إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ۗ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ"
سورة الشعراء: آية 227

يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وهو معلم البشرية وسيد الكرماء والكرم والكرامة وإمام المتقين لابن عباس رضي الله عنهما:


"يا غلام ، إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، ( رفعت الأقلام وجفت الصحف )"



وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

"يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك فاعلم أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن اليقين مع الصبر وأن الفرج مع الكرب فإن مع العسر يسرا"

كن قويا
كن عزيزا
كن غيورا
لن تعش إلا مرة واحدة
كن فيها رجلا
عش رجلا
ومت رجلا
ستموت مرة واحدة فقط
اذهب إلى قبرك بعمل صالح
اخش الله ولا تخف
 ولا تخجل من اسلامك أمام عبد مثلك
يتساوى معك في دورة المياه
لا تخش في الحق لومة لائم
كل من حولك عبيد مثلك
حتى الرؤساء والملوك والأمراء يتهاوون واحدا تلو الآخر
كان الناس يخشونهم ولا يخشون الله
أين هم الآن
وكم يخجل من نفسه من كان يعبدهم
ومن كان يخشاهم
ومن كان ينافقهم ويداهنهم
لا يصح إلا الصحيح
إن الله موجود في كل الوجود
اعبده كأنك تراه
فان لم تكن تراه فانه يراك
كن عزيزا
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام
فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله
وقد حدث
ويحدث
لا تكن إمعة
ولا تخجل من إسلامك
ارفع رأسك فانك مسلم
ولا تفرّط


"وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا"
سورة الكهف: آية 49

محمد هاشم عبد البارى
غرة جمادى الآخرة 1432ه
4 مايو 2011 م

الثلاثاء، 21 فبراير 2012

"وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ " / التدويد 2 / أ.د محمد هاشم عبد البارى

بسم الله الرحمن الرحيم

"وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ "
التدويد
2/2
الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد الباري
7777777


تحدثنا في الجزء الأول عن "التدويد" من حيث تعريفه وما هيته وتصنيفاته ومسبباته من أنواع الذباب المختلفة، والآن دعونا نلقى بعض الضوء على نقاط أخرى تتعلق بموضوع "التدويد".  إنّ تدويد الإنسان يعتبر أمرا شائعا نسبيا، وهو أكثر شيوعا في الدول غير النامية والدول الاستوائية وبالرغم من التقارير عن تدويد الإنسان على اتساع العالم.  ويحدث أغلب التدويد عندما تحط الذبابة الأنثى على الإنسان (أو الحيوان) العائل وتضع بيضها أو يرقاتها.

تدويد الأنسجة العميقة
تغزو يرقات أنواع ذباب "كاللينتروجا" (وهى نفسها ذبابات "كوتشيلوميا")، وذباب "كرايسوميا"، وذباب"ساركوفاجا", وذباب "وولفارتشيا",وذباب "فانيا"، وذباب "أوستراس" تغزو الأنسجة بشدة عندما تضع بيضها على الجروح المفتوحة وعلى الأنسجة التالفة أو على الأسطح الإخراجية في عورات الإنسان المكشوفة بواسطة إناث ذلك الذباب.  يرقات ذباب "وولفارتشيا" يمكنها اختراق حتى الجلد السليم.  مواضع الأذى فى الإنسان ترى عادة في فتحة الأنف والتجويف المجاور للأنف، والأذن الوسطى، ومحجر العين.  يمكن لليرقات أيضا أن تدمرالغضاريف والعظام، تلك اليرقات التي تحمل حلقات من الأشواك على حلقات جسمها، تلك اليرقات قد تمتد وتنخر الى داخل الجمجمة فى الإنسان مما يؤدى إلى الالتهاب السحائي القاتل.  المواضع المتأذية تكون مؤلمة للغاية وتخرج اليرقات من تلك المواضع بعد اكتمال نموها لتسقط ولتتحول إلى عذارى (خادرات) في التربة.  يكون العلاج يدويا (جراحيا) بإزالة اليرقات أو إخراجها بعد رش الموضع بالكلوروفورم.  وقد يستلزم الأمر تكرار الجلسات.  التلوث الثانوي يجب علاجه بواسطة مضاد حيوي واسع المجال مثل الأمبيسللين.


تدويد جلدي زاحف


التدويد الرمدى
أو التدويد البصري يسببه ذباب "كرايسوميا" وذباب النغف "اوستراس" الذي قد تضع إناثه بيضها في كيس.  تخرج اليرقات الفاقسة وتحدث العطب الذي يشبه التهاب جفن العين الحاد مع أكلان شديد.  ونادرا ما يحدث تقرح قرنية العين أو فقدان البصر.  إن إزالة الديدان بعد تخدير العين واستعمال مضاد حيوي موضعي على العين يمكن أن يريح ويلطف الحالة.


تدويد بصري

التدويد المحجرى
إن الإصابات اليرقية المسببة للتدويد تحدث في الأنف بنسبة 81% من الحالات، وفى الأذن بنسبة 11% من الحالات، وفى الوجه بنسبة 1% فقط من الحالات.  حالات التدويد المحجرى (في محجر العين) تعتبر نادرة على نطاق العالم.   إن اليرقات الطفيلية الغازية قد ينجم عنها تدمير أنسجة محجر العين وتشوّهها وأحيانا الموت.  وبمجرد وجود اليرقات على العين وملحقاتها البصرية فان الأعراض تعتمد على الموضع المصاب وغزو اليرقات له.  وتميل أنواع الذباب اختيارية التدويد إلى إحداث إصابة بسيطة، بينما الأنواع الإجبارية التطفل يمكنها أن تكون عدوانية اجتياحية.


مظهر موضع الأذى في محجر العين الأيسر لرجل في الخامسة والخمسين من عمره مصاب بتدويد محجر العين سببته يرقات ذبابة "كوشليوميا هومينيفوراكس"

إن التدويد الأنفي والتدويد المحجرى في العالم الجديد (الأمريكتين) يتسبب عادة بواسطة ذبابة "كوتشليوميا هومينيفوراكس".  الذبابة تجذبها الرائحة الكريهة لتجاويف الجسم المكشوفة أو المريضة.  ويعتبر التشخيص المبكر والعلاج المبكر هام لتجنب تدميرا كبيرا للأنسجة ومكافحة الإصابات الثانوية.  إن اقتراب اليرقات الغازية من الدماغ (المخ) وإمكان غزو الجمجمة داخليا من خلال قمة محجر العين يجعل ذلك حالة من التهديد الخطير للحياة.

ويتألف العلاج التقليدي للتدويد المحجرى من إزالة اليرقات من المواضع المتأثرة، وهى المهمة الصعبة والثقيلة والتي تكون أحيانا مستحيلة في الفراغات الأصغر من محجر العين.  كما يقرر دواء يستعمل موضعيا يساعد على الإزالة والذي قد تكون نتائجه محبطة أحيانا.  ويمكن إعطاء علاج الانفرميكتين عن طريق الفم لقتل اليرقات قبل إخراجها بالجراحة.

التدويد المعوي
قد تمر يرقات أو عذارى الذباب المنزلي"ماسكا" و"فانيا" وذباب اللحم"ساركوفاجا" مع البراز أو تظهر في القئ.  البيض يوضع بواسطة إناث الذباب حول الحواف أو الشرج خلال النوم وبخاصة إذا كانت تنبعث رائحة كريهة حول تلك الفتحات (إنهم لا يغسلون تلك المناطق بعد التغوّط والحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة).  ولتصل الى الجهاز الهضمي العلوي فانّ اليرقات تفقس في غضون ساعات قليلة إلى يومين وتبتلع (طبعا لأن أيديهم تتنقل من شرجهم إلى أفواههم دون غسيل، والحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة)، أو قد تزحف اليرقات إلى داخل المستقيم والأمعاء الغليظة.  ثم تنمو في المعدة أو في داخل الأمعاء.  أحيانا قد تبتلع اليرقات مع الغذاء الملوث (تغطية الأواني في الإسلام سنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وواجبة صحيا حتى ولو كانت فارغة، والحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة).  اليرقات تسبب أعراض التهاب المعدة أو التهاب القولون والتي قد تبقى من أسابيع إلى شهور.  إذا لم تتجدد أو تتكرر العدوى فان الحالة سوف تحجّم تلقائيا.  يشمل العلاج إعطاء مسهلات والتأكد وإعادة التأكد من طبيعة تحجيم المرض.



تدويد المجارى البولية التناسلية
يرقات الذباب المنزلي"ماسكا","فانيا"أو يرقات ذباب "ساركوفاجا" قد تدخل إلى المثانة عندما يوضع البيض حول العضو الذكرى في العورات المكشوفة (والحمد لله على نعمة الإسلام والحياء من شعب الإيمان) وينتج أعراض إصابة مجرى البول الأسفل مع فرط إخراج بروتينات الدم مع البول، ووجود صديد في البول ونزيف دموي غزير.  قد تمر اليرقات مع البول.  نادرا ما يصاب الجهاز البولي عن طريق اليرقات التي تحفر طريقها من القناة الهضمية.


التدويد الفموى
ويحدث التدويد في الإنسان في الأشخاص في الأعمار المتطرفة والذين تضعف أجسامهم أو غير القادرين على بلوغ قواعد النظافة الصحية وتنظيف الجروح.  ولا ننسى في ذلك المقام الوضوء خمس مرات في اليوم والاستحمام واستعمال السواك، والحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.  إن الموت الموضعي لأنسجة الجروح أيّا كان أصلها يمد أو يعطى مادة نموذجية لليرقات النامية.  واعتمادا على الموضع التشريحي المتأثر فانه يمكن تقسيم أنواع التدويد إلى: التدويد الجلدي,تدويد الفتحات الخارجية (الفموية, الأنفية, الرمدية, السمعية, الشرجية, التناسلية"وتدويد الأعضاء الداخلية (المعوية,البولية التناسلية). التدويد الجلدي ربما يكون هو الأكثر حدوثا والأكثر شيوعا.

تدويد فمي

إنّ الأنواع التي تحدث التدويد الجلدي وتحت الجلدي وتدويد البطانة المخاطية تتضمن ذبابة نغف معدة الخيل"جاستروفيلاس انتيستيناليس" وذبابة نغف جلد البقر "هيبودرما بوفيس" وذبابة نغف الإنسان "ديرماتوبيا هومينيس".  نادرا ما تحدث الذبابة المنزلية التدويد بالرغم من كثرة وجودها.

وقد وصف كل من دوجرا ومهاجان عام 2009 حالة فتاة عمرها 16 سنة تعانى من شلل دماغي تشنجي.  كان عندها حمّى بصفة عرضية، وتنفس كريه الرائحة، واحمرار الجلد، وانتفاخ متقرح ومعطب على سقف الحلق الأمامي والذي يخرج منه الصديد والديدان.  أزيلت الديدان يدويا وتتابعت جلسات النظافة الصحية والعناية بالجرح والمضادات الحيوية والإمداد بالمواد الغذائية.  وكانت اليرقات من الذباب المنزلي.


مكافحة التدويد الذبابي
أول الطرق في المكافحة هو المنع والمساعدة في استئصال الحشرات اليافعة من الذباب قبل أن تتمكن من إحداث أي ضرر، وتسمى بمكافحة المسبب.  الطريقة الأخرى هي العلاج بمجرد حدوث الإصابة والاهتمام بالإنسان أو الحيوان المصاب.



المنع
الطريقة الأساسية لمكافحة عشائر الذباب المسبب للتدويد تتضمن استخدام المبيدات الحشرية في البيئة التي تحفظ وتربى فيها الحيوانات الزراعية.  وقد تستعمل مبيدات من مركبات الفسفور العضوية أو مركبات الكلور العضوية في تجهيزات للرش.  وأحد الطرق البديلة للمنع هو استئصال نوع الذباب المسبب باستخدام تقنية تعقيم الحشرات حيث يتم تعقيم أعداد كبيرة من ذكور الذباب المربى صناعيا،  ثم إطلاقها في البيئة.  فتتنافس الذكور المعقمة مع الذكور الخصبة الموجودة بريّا في البيئة على التزاوج وتلقيح الإناث الطبيعية، مما يؤدى إلى وضع الإناث الطبيعية الملقحة بالذكور المعقمة بيضا غير مخصّب لا يستطيع أن ينمو إلى يرقات فلا يفقس البيض.

أحد طرق المنع المستخدمة في أستراليا ونيوزيلندا يتضمن إزالة أكثر البيئات أو الأماكن تفضيلا للذباب مثل البتر"بإزالة ذيل الحيوان".  وهناك مثل آخر وهو إزالة الصوف من حول الذيل وبين الأرجل الخلفية للغنم والذي يشكل بيئة مفضلة لليرقات.  وهناك ممارسة أكثر استدامة وأقل إنسانية والتي استخدمت في بعض الدول مثل استراليا ونيوزيلندا وهى سلخ المؤخرة حيث يبتر الذيل ويزال جلد الحيوان عندما يكون صغيرا ليضيّق بقية الجلد ويتركه أقل جاذبية لهجوم الذباب.  وهناك نشطاء ومنهم جمعيات الرفق بالحيوان والعديد من المشاهير وأهل الفن قاموا بحملات لحضّ المزارعين على الكف عن عملية السلخ.
ويتضمن السلخ إزالة سلخات من الجلد الذي يحمل الصوف من حول مؤخرة "أرداف الحيوان"من الغنم لمنع هجمات الذباب "التدويد" في المناطق التي تعم فيها المشكلة.  هذه العملية هي ممارسة شائعة في استراليا كطريقة لتقليص حدوث ضربات الذباب لأغنام "الميرينو" المنتجة للصوف.  وفى يوليو 2009 مزق نواب صناعة الصوف في البرلمان الأسترالي تعهدا سابقا اتخذ في نوفمبر 2004 للإيقاف التدريجي لممارسة السلخ في أستراليا بحلول 31 ديسمبر 2010.  ولقد أوقف السلخ الذي يمارسونه في نيوزيلندا.

ولمنع التدويد في الإنسان هناك احتياج لتحسين النظافة الصحية العامة والنظافة الصحية الشخصية ولإبادة الذباب بالمبيدات الحشرية.  يجب غسل الملابس جيدا، ويفضل أن يكون بالماء الساخن وتجفف بعيدا عن الذباب الذي يضع بيضه ويرقاته أيضا على الملابس المبتلة المنشورة للتجفيف، وتكوى الملابس جيدا بعد التجفيف لقتل البيض واليرقات المحتمل وضعه على الغسيل المنشور قبل الجفاف. إن حرارة المكواة تقتل بيض الذباب المسبب للتدويد.

العلاج
يجرى العلاج بمجرد حدوث الإصابة.  في كثير من الدوائر الطبية يكون أول استجابة للتدويد الجلدي بمجرد تكوين الدودة لفتحة التهوية هو تغطية الفتحة تغطية سميكة بالفازلين.  إن العجز في الأكسجين الذي يسببه سد فتحات تهوية اليرقة بالفازلين يدفع أو يجبر اليرقة على الخروج من تحت الجلد إلى السطح، حيث يمكن التعامل معها بسهولة أكثر.

وفى الإطار السريرى أو البيطري ربما لا يكون هناك وقتا لتلك الاتجاهات التجريبية، ويكون الخيار العلاجي مباشرا بشق الجرح أو بدونه.  فأولا يجب اقتلاع اليرقة من خلال الضغط حول موضع الإصابة وباستخدام الملقط.  وثانيا يجب تنظيف الجرح وتطهيره.  ومن الضروري السيطرة بعد ذلك لتجنب تجدد الإصابة.

قد تعامل الحيوانات الزراعية وقائيا بمركب من حبيبات طويلة المفعول (بطيئة الانطلاق) تحتوى على انفرميكتين والذي يزود الحيوان بوقاية طويلة المفعول ضد نمو يرقات الذباب في الأنسجة.  والانفرميكتين Invermictin هو مضاد واسع المجال للطفيليات مشتق من الأفيرميكتينات Avermictins الطبية وهى سلسلة قوية المفعول ضد الديدان الطفيلية.  ويؤخذ الانفرميكتين عن طريق الفم أو بالحقن.

الأغنام يمكن تغطيسها لنقع الحيوان في مبيد طويل المفعول لتسميم اليرقات قبل أن تنمو وتصبح مشكلة.

وبعد..
يالله؟  كل تلك المشاكل والمآسي يحدثها الذباب؟  بل مجموعة صغيرة من أنواع الذباب؟  نحو 150 نوع فقط من الذباب الذي يحدث التدويد في البشر والحيوان من أكثر من 150000 نوع معروف من الذباب؟  أي نحو جزء من ألف جزء من أنواع الذباب المعروف في العالم يحدث التدويد؟  لم أتكلم عن مئات الألوف من الأنواع التي خلقها الله ولا نعرفها حتى اليوم.  ولم أتكلم عن أعداد الذباب من كل نوع ليس في العالم بل في حي صغير!  لا بل في كومة واحدة من القمامة!  كل تلك القوى الجبارة العاتية التي يعجز الإنسان عن اتقائها ومواجهتها أودعها الله في الذباب؟  ويضرب الله المثل بذلك الذباب في الضعف وفى المهانة؟  ويتحدى الله به الإنسان أن يخلق مثله؟

إن الإنسان لا يستطيع أن يمنع ذبابة من تدويده ولا تدويد ممتلكاته الحيوانية!  إن الذباب أذلّ الإنسان!  نعم أن ذلك المخلوق المهين أذلّ الإنسان!  انه يستطيع أن يدوّد رأسه وأذنيه وعينيه وفمه وشفتيه.  انه يستطيع أن يدوّد له جلده الذي يتباهى به ويعتني به ليلا ونهارا ويعرضه ويستعرضه!  نعم في أي مكان في جسد الإنسان يستطيع ذباب النغف أن يدوّده له.  ببساطه يضع بيضه أو يرقاته في ملابسه المنشورة للتجفيف بعد الغسيل فيلبسها الإنسان فتخترق اليرقات جلده في أي مكان في جسمه ولو كان مكانا حساسا!  انه يستطيع أن يدوّد له فرجه وجهازه التناسلي ولا يبالى فلا تغضب ربك!  إن ذلك الذباب يستطيع أن يدوّد للإنسان فمه فلا تفتر عن ذكر الله وقول الحق وقول الصدق!  لا تغتر بالذباب.  أنظر إليه باحترام.


إن أعجب ما يثير العجب أن يجنّ جنون الإنسان فيقطّع ذيول الحملان وينتزع جلود أردافها بلا رحمة وهى حيّة تتألم و لا تستطيع النطق ولا الشكوى بسبب ذلك الذباب.  إنهم في أستراليا يبترون ذيول الحملان ويسلخون أدبارها حتى لا يضع الذباب بيضه ولا يرقاته عليها!  وكأن علاج الصداع قطع الرأس. لقد كشف ذلك الذباب الذي ضرب الله به المثل في الضعف والمهانة كشف أسوأ ما في نفس الإنسان.  لقد كشف غلظته وقسوته وإجرامه.  ويتشدقون بحقوق الإنسان وحقوق الحيوان ويقيمون جمعيات الرفق بالحيوان.  ويرفضون أن يصدّروا لنا الخراف لقسوتنا عند ذبحها بالسكين!  إنهم يسلخونها حيّة ويستأصلون ذيولها التي خلقها لها الله وهى حيّة تصرخ بلا رحمة وبلا شفقه.  بسبب الذباب.  والأدهى والأمرّ أن تحتجّ جمعيات الرفق بالحيوان ويحتج النشطاء والسياسيون وأهل الفن لديهم على تلك المعاملة القاسية، وفى إطار احتجاجاتهم يخلعون ملابسهم ويسيرون في مظاهرات عرايا كما ولدتهم أمهاتهم بعد تلطيخ أدبارهم بلون الدم!!! إنهم ينتهزون كل فرصة لخلع ملابسهم والتعري!!!  كل ذلك بسبب الذباب!!! حتى أنهم لا يخافون أن يضع الذباب بيضه على أجسامهم وجلودهم العارية فيدوّدون!!!  كل ذلك فضحه الذباب. وتحتج بعض الدول على تلك المعاملة القاسية للحملان فترفض استيراد الصوف الناتج من خراف "الميرينو" الأسترالية!  يالله لقد فجّر الذباب أزمات تجارية دولية وسبّب المقاطعة!  ويسيء الدنمركيون والهولنديون إلى رسول البشرية صلى الله عليه وسلم ولا يحرك المسلمون ساكنا، ويشترون المنتجات المعادية لرسولنا الكريم ويتجرّعون البيبسي والكوكاكولا.  لقد كشفهم الذباب، قسوة وغلظة لم تشهدها الإنسانية وقلة حياء وتعرّ ورفق مصطنع.  كل ذلك فضحه الذباب، ولكن ليس كل الذباب، وما خفي كان أعظم.

ذلك الذباب الذي تحدى به ربنا تبارك وتعالى المشركين والكفار والملحدين والعلمانيين والليبراليين أن يخلقوا مثله، ولن يخلقوا ولو اجتمعوا له.  ولو تكاتفت كل جامعاتهم ومراكزهم البحثية ومدنهم العلمية وأكاديمياتهم الشهيرة.  ولو اجتمعوا له.  إننا وفى القرن الواحد والعشرين حتى لا نزال ندرس ونبحث في إنزيمات الذبابة وفى جينات الذبابة.  ذبابة واحدة أو بضع أنواع من الذباب من بين أكثر من 150000 نوع بسلالاتها المختلفة.


"يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ"
(سورة الحج: آية 73)

نعم، فلا أنتم ولا ما تعبدون من دون الله من أصنام أو رؤساء أو ملوك أو سلاطين أو حكام أو أيديولوجيات أو مذاهب أو دساتير أو طواغيت بقادرين على أن تخلقوا ذبابا ولو اجتمعتم له. أنتم ضعفاء لا تستطيعون حتى منع التدويد عنكم، وهم ضعفاء لا يستطيعون عن أنفسهم منع التدويد.

أيها الإنسان، كم أنت ضعيف؟ مهما بلغت أموالك، ومهما بلغت قوتك، ومهما بلغ جمالك، ومهما بلغت وسامتك، ومهما بلغ سلطانك، تستطيع ذبابة واحدة قبل أن تسحقها أن تضع بيضها على أنفك أو على عينك أو على فمك أو على جلدك، ولو بيضة واحدة فقط، فتدوّد وأنت على قيد الحياة، فلن تنفعك مليارات العالم كله. لا تغتر فأنت ضعيف، فلا تبارز الله بالمعاصي، ولا تتكبر على منهج الله، عد إلى طريق الله فهو القوى وهو الذي خلقك وخلق الذباب، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
أيها الإنسان، لا تنس، أنت ضعيف. عد إلى الله.

"ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ"
"ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ"

محمد هاشم عبد الباري
21 فبراير 2012