توفى إلى رحمة الله تعالى الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى يوم 5 يناير نسألكم الدعاء له بالرحمه والمغفرة

الجمعة، 15 مارس 2013

جزء 8- الله..ثم الطبيعة والحرب والنفس والنصر / أ . د محمد هاشم عبد البارى

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الله.. ثم الطبيعة والحرب والنفس والنصر
الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى
7 مارس 2013
^^^^^^^
الجزء الثامن
 
(تابع)
الحرب والنفس
انّ الحروب بين الأمم، سواء كانت معتدية أو معتدى عليها، وسواء كانت الأمة على حق أو على باطل، وسواء كانت ظالمة أو مظلومة، ، وسواء كانت الأمة مهاجمة أو كانت مدافعة،  وسواء كانت أمة مؤمنة أو أمة كافرة، ليست نزهة أو "بريك    "Brake بتعبير "النخبْ"!  انها جرح ونزف وقطع وبتر وحرق واعاقة وقتل وتدمير وتخريب وهدم.  ولكنها لا تخيف المؤمن الحق.  انّ المؤمن بقضاء الله دائما ما يكون مطمئن النفس. لا ترتعد نفسه عندما يواجه أىّ من ذلك أو حتى كل ذلك.  انه الفائز فى جميع الأحوال.  انه قوى النفس لا يعتريه ولا يصيبه ولا يلحقه ولا يؤذيه ما يؤذى نفس الكافر المعتدى المغتصب.  انهم يكابدون كل ذلك دون أن يقبضوا على شىء ودون أن يعرفوا أو يدركوا أو يظفروا برحمة من الله.  انهم ينكرونها ولا يعترفون بها ولا حتى يرجونها.
"وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا"
(سورة النساء: آية 104)
 
 
يا مارينز أمريكا، أنتم تأكلون أضعاف ما نأكل، وتشربون أضعاف ما نشرب، وتلبسون أضعاف ما نلبس. وتستهلكون أضعاف ما نستهلك، حتى انكم تلبسون القفازات فى أيديكم الناعمة لتمسكوا بها أسلحتكم التى لم تر البشرية أعتى منها، فلماذا تبكون فى التدريب وتنتحبون فى الحرب وتضطرب نفوسكم وأفئدتكم؟!  واذا كنتم أقوى جيوش الدنيا وتتسلحون بأحدث الأسلحة الغبية منها والذكية وأعظمها تكنولوجيا، فلماذا ترتبكون وتضربون بعضكم البعض بالنيران "الصديقة" فى الحروب؟!
 
 
لقد خضنا غمار الحرب فى أكتوبر وكانت الصواريخ وقنابل الألف رطل تزلزل الأرض من تحتنا ولكنها لا تهزّ نفوسنا ولا تزلزلنا نحن.  كان الرصاص والشظايا والقنابل والصواريخ الصهيونية تفرّق بين من كان عليه القتل ومن كان عليه البقاء.  وكانت صواريخنا وقنابلنا ودانات مدافعنا لهم كذلك.  كانت الانفجارات والحرائق والجرح والقطع والبتر والقتل والدماء والأشلاء ولكننا لم نعرف ما يسميه العدو عندهم "بصدمة القذائف" أو "صدمة القتال" أو "اضطرابات ضغط ما بعد الصدمة".  انّ ذلك لم يكن يخصنا نحن المؤمنين بالله فى الحرب.  لم نكن نعرف الخوف ولا الجزع ولا الهلع.  لقد كنا ندرك ونؤمن بأنه "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها".  لم تكن أفكارنا محصورة فى ذواتنا.  كانت الحرب فى ذاتها بريئة من أية صدمات لنا.  ولكن الصدمات لم تأت الا بعد الحرب.  لم تأت من رصاص ولا قنابل ولا شظايا ولا انفجارات.  ولكنها أتت من الانسان.  سأسوق قليل من الأمثلة.
 
انّ أول صدمة من "صدمات بعد الحرب" فى تاريخ الاسلام كانت قد حدثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة تبوك.  ففي الرجعة من الغزوة، التى انتصر فيها المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الروم بغير قتال، وقعت محاولة لاغتيال النبي الكريم.  لقد حاول اثنى عشر منافقاً قتله في موقع كان مناسبا لهم لأن أكثر جيش المسلمين كانوا في بطن أحد الأودية بعيدا عن النبى الكريم، ولم يكن مع الرسول الكريم سوى عمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان.  حماه حذيفة وخاف المنافقون ولاذوا بالفرار.  أخبر حذيفة رسول الله بأسمائهم، ومن هنا اشتهر حذيفة باسم صاحب سر رسول الله، ونزل في القران "وهموا بما لم ينالوا".  بالطبع لم يصدم رسول الله بذلك الفعل فقد أصابه أكثر من ذلك بكثير على مدى اضطلاعه برسالته الخاتمة، وهو الذى طمأنه ربه عزّ وجلّ بالعصمة من الناس فى قوله تبارك وتعالى:
"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ"
(سورة المائدة آية 67)
 
انّ من أقسى صدمات ما بعد القتال فى تاريخ الحروب الاسلامية هى تلك التى جرت على حياة هازم وقاهر المغول والتتار فى عين جالوت سلطان مصر قطز رحمه الله.  لا شك ولا جدال فى أنّ انتصار المسلمين على التتار بقيادة قطز في "عين جالوت" كان انتصار عقيدة ولم يكن انتصار كثرة عددية ولا قوة سلاح.  لقد كان أمر الإسلام عظيما في قلبه فاستصغر أيّ تضحية في سبيل نصرة هذا الدين العظيم وتلك الأمة الموحدة.  لقد كان أمر الاسلام والزود عن حياض الاسلام عظيما وغاليا عند قطز وعند جنود قطز فهانت عليهم الدنيا وما فيها.  كان قطز وجنوده يجاهدون وهم حريصون على الموت، ولم  يجاهدوا وهم حريصون على أن لا يموتوا فحققوا النصر على عدو عالمى وقهروا أكبر قوة فى العالم حينذاك.  لقد قام قطز بتطهير بلاد الشام كلها بعد معركة عين جالوت من فلول التتار، ثم خرج من دمشق عائدًا إلى مصر، إلى أن وصل إلى "القصير".  بقي بينه وبين الصالحية - المعسكر الذي حشد فيه قواته قبل التحرك لقتال التتار- بقى مرحلة واحدة.  رحلت قواته إلى جهة الصالحية فانقضّ عليه عدد من الأمراء وقتلوه على مقربة من خيمته.  لم يمض يومان على قتله حتى حلّ "بيبرس" مكانه باسم الملك الظاهر.  كان قطز بطلاً شجاعًا مقدامًا حسن التدبير، كان يرجع أمره وأمر المسلمين إلى دين وإسلام وخير، وكان له اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوّض الله شبابه بالجنة ورضي عنه.  لقد كان قطز صادقًا عزيز النفس، كريم الأخلاق، مجاهدًا من الطراز الأول.  قُتل قاهر التتار مظلومًا.  تلقى "صدمة ما بعد الحرب" أو قل حتى "صدمة ما بعد النصر" فلم يلبث الا دقائق خسر بعدها روحه وربح الدنيا والآخرة.  سجله التاريخ في أنصع صفحاته.  رضي الله عنه وأرضاه، وجعله قدوة صالحة لقادة العرب والمسلمين.
 
الفريق سعد الدين الشاذلى مخطط وقائد وبطل حرب العاشر من رمضان – أكتوبر 1973.
رحمه الله وعوضه عن صدمات ما بعد النصر خيرا ورفع بها درجاته وأدخله الجنة برحمته.
 
ولعل أكبر مثل "لصدمات ما بعد الحرب" أو "لصدمات ما بعد القذائف" أو "صدمات ما بعد القتال"، ان جازت التعبيرات، فى عصرنا فى حرب العاشر من رمضان كانت فى شخص قائد ومخطط العبور وقائد ومخطط حرب العاشر من رمضان ذاته.  لقد تلقى الفريق سعد الدين الشاذلى أكبر صدمة من "صدمات بعد الحرب" تلقاها رجل من رجال حرب أكتوبر وتلقاها قائد منتصر فى العصر الحديث.  لقد عانى أكثر من ثلاثين عاما من الاقالة والكذب والبهتان والتضليل واساءة السمعة والتنكيل المعنوى والتجاهل والنفى والسجن من رئيس الدولة السادات الذى كلفه بالعبور وادارة الحرب.  بل سحب الرئيس المصرى المخلوع منه وسام نجمة سيناء زيادة فى التنكيل وهو كان أول وأفضل مستحقيها!  والتفصيلات معروفة للقاصى والدانى.  ولكن حتى تلك الصدمات لم تؤثر فى نفسية الرجل ولم تمرضها ولم تُعييها.  لا أدّعى أنّ ذلك الظلم العظيم الذى كابده واستمر عقودا لم يحزنه ولم يؤلمه.  ولكنه كان قوىّ النفس من أولى العزم فلم تكترث نفسه ولم يعتريها الأمراض ولا العلل.  كان يصنع البطولة ويعيشها طوال خدمته فى القوات المسلحة المصرية.  كان مؤمنا واثقا محتسبا أجره عند ربه.  كان مبتسما ضاحكا فى كل أحاديثه حتى توفاه ربه.  نسأل الله له الرحمة والمغفرة وجنة عرضها السموات والأرض.  رحمك الله يا سعد الدين الشاذلى.
 
فخامة الرئيس المصرى المنتخب الأستاذ الدكتور محمد مرسى يعيد لاسم لقائد البطل الفريق سعد الدين الشاذلى حقوقه فى التكريم والاعتراف بفضله وبطولته فى شخص السيدة أرملته والسيدة كريمته بعد "صدمات ما بعد القتال" التى تلقاها البطل طوال نحو أربعة عقود من الرئيسين السابقين.
 
التحق بكلية الزراعة بالاسكندرية التى أعمل بها بعد حرب أكتوبر طالب غير عادى.  عرفته من خلال الدروس العملية للسنة الرابعة التى كنت أدرّسها فى المختبرات بعد عودتى من الجبهة.  كان طالبا كبير السن مقارنة ببقية الطلاب وكان به عرج شديد ولكنه ليس بسبب شلل الأطفال.  أثار انتباهى حزنا كان مرتسما على وجهه بصفة دائمة.  أخذته معى فى مكتبى يوما بعد انتهاء أحد الدروس وتناولت معه الشاى وأنا أناقشه فى الدرس العملى الذى شرحته فى ذلك اليوم ثم عرجت على سؤال مباشر قائلا له: "قل لى من أنت، اننى أعرف اسمك بالطبع وأعرف أنك تدرس عندى، وأعرف أنك طالب بكلية الزراعة، ولكننى مع ذلك لا أعرف من أنت"!  حكى لى قصته.  قال أنا أعرف انك كنت ضابط برتبة نقيب مدفعية ميدان فى حرب أكتوبر، أنا كنت رفيقك فى الحرب، كنت نقيبا طيارا مقاتلا، اشتركت فى قصف أهداف العدو فى سيناء فى "أول طلعة جوية" فى الحرب، تصديت مع سربى لسرب مقاتلات صهيونية بعد مهمة ناجحة فى اليوم الرابع من الحرب.  أصاب طائرتى صاروخ جو جو من طائرات العدو التى تكاثرت علىّ.  قذفت نفسى من الطائرة المقاتلة بعد اصابتها وسقطت من ارتفاع شاهق وكانت سقطة سيئة فأصبت اصابات شديدة فى نصفى الأسفل ووجدتنى فى مستشفى المعادى بعد عدة أيام من الغيبوبة.  زارتنا "سيدة مصر الأولى" (أسميها أنا سيئة مصر الأولى) لرفع الروح المعنوية والمواساة.  بناء على عروضها لنا طلبت منها شقة فوعدتنى بها قائلة: "اعتبر مفتاح الشقة فى جيبك".  لم أرها بعد ذلك وخرجت من المستشفى معاقا بعد عدة شهور.  حاولت الوصول اليها أو الاتصال بها دون جدوى.  أصبحت "فص ملح وذاب".  تبخرت وعودها لى ولغيرى.  أحاول أن أغيّر مسارى وأدرس الزراعة لأن اعاقتى أخرجتنى من الخدمة بالطبع.  أخذت أخفف عن الرجل وأهوّن عليه ولكنه كان حزينا.  لم يكن متأثرا وحزينا من الاصابة ولا من الاعاقة ولا من قضاء الله عزّ وجلّ، بل كان فخورا بما أنجزه فى الحرب، ولكنّ حزنه وتأثره كان من نفاق "سيئة مصر الأولى" ووعودها الكاذبة له ولغيره.  أوليته عناية خاصة جدا وبذلت معه جهدا وبذل هو جهده ليس فى مادتى فقط ولكن فى جميع المواد.  نجح فى تلك السنة، ولكننى لم أره بعد ذلك فى الكلية ولا أعرف أين هو ولا ماذا حدث له حتى اليوم.
 
 
 
بعد وقف اطلاق النار وفضّ الاشتباك الأول بعد 11 نوفمبر 1973 منحْت اجازة خاطفة من الجبهة فى رأس العش لمدة 36 ساعة.  أمضيت نصف تلك الاجازة فى رحلة الذهاب من الجبهة الى الاسكندرية والرجوع اليها.  كان اهتمامى فى تلك الاجازة الخاطفة رؤية أمى واخوتى والاطمئنان عليهم وطمأنتها فقد كنا ثلاثة أشقاء فى الحرب فى الجبهة.  كان اهتمامى الثانى هو المرور على عائلات جنودى الأحياء فى الاسكندرية لطمأنتهم على أولادهم وقد استغرق ذلك منى وقتا كبيرا.  زرت أساتذتى وزملائى بالكلية لمدة أقل من ساعة أصرّ فيها أستاذى الدكتور أحمد الشاذلى- وهو ابن عم الفريق سعد الدين الشاذلى- على أن يقيم لى احتفالا استغرق نصف ساعة دعى اليه أساتذة وطلاب القسم.  عند عودتى من الكلية متوجها الى بيتى، وكنت بصحبة زميل يحضّر الدكتوراه فى معمل الأستاذ الدكتور أحمد الشاذلى رحمه الله، صادفت أحد أساتذة الكلية الكبار فى شارع الكلية جالسا فى سيارته فاتحا باب السيارة الأيمن ومخرجا ساقه اليمنى منها، وكان يضع بضعة أرغفة من الخبز على المقعد الخلفى.  قال له زميلى الفاضل بحسن نية "هذا هو الأستاذ محمد هاشم الضابط العائد من الجبهة".  لم أكن أريد ذلك، فلم يكن لدىّ وقت ولم يكن لدىّ استعداد للكلام فما زلنا فى الحرب وسأعود الجبهة.  عندما سمع الأستاذ الكبير – رحمه الله - كلام زميلى انتفض على الفور وقام من سيارته وأخذ يربت على كتفى وعلى ظهرى بل يضرب عليهما فى تهكم وسخرية قائلا:
"تعال هنا يا بطل.. أهلا وسهلا يا بطل.. هل أنهيتم التمثيلية التى قمتم بها يا بطل؟.. لماذا لم تحرروا سيناء كلها يا بطل؟  وما كان لزوم ما فعلتموه يا بطل؟.. انظر يا بطل نحن نأكل الخبز وفيه التراب يا بطل"!!!
أخذ الرجل يهذى بتلك العبارات وغيرها من عبارات التهكم والسخرية وهو لا يزال يربت على كتفى باستهزاء وأنا أستمع اليه صامتا، ولكن كان يتسارع فى التداعى على سمعى وعلى بصرى أصوات الطائرات والقنابل والصواريخ والمدافع والشظايا التى تتطاير حولنا لتقطع وتبتر وتشق وتقتل، وروائح المتفجرات والمختلطة بالدم فى أنفى والأشلاء والشهداء فى عينى، وأنا أعانى من ثقوب الأذن الوسطى من قصف المدافع وانفجارات القنابل والصواريخ.  بقيت صامتا حتى أفرغ الرجل ما فى جوفه وأخذ ينظر الىّ باستخفاف، ولما سكت قلت له: "هل قلت ما عندك أم لا يزال هناك ما تريد قوله؟".  قال لى وهو يعقد ذراعيه على صدره فى تحدِّ: "أنا منتظر الرد يا بطل".  وجدت نفسى واضعا ساعدى الأيسر فى رقبته وأضغط عليها فى أعلى سيارته قائلا: "أنت لست أستاذا.. أنت لست مصريا.. أنت لست رجلا.. أنت لست شيئا.. أنت أخسّ ممن كنت أحاربهم".  كدت أن أقتله لولا لطف الله، فقد أخذ زميلى، أكرمه الله، يسحبه من بين ساعدى والسيارة وأخذ يجره بعيدا وأحمد الله أن خلصه منى (زميلى الفاضل أصبح فيما بعد عميدا لأحدى كليات الزراعة وهو اليوم بفضل الله حى يرزق).  ذلك الأستاذ أسرّ فى نفسه ذلك الموقف وأضمر لى السوء بالرغم من أننى تناسيت بعد ذلك كل ما حدث فلم أحكه مطلقا لأحد الا الآن وبعد أربعين عاما.  بعد فض الاشتباك الثانى عدت من الجبهة الى التدريس فى كليتى.  كنت أقرؤه السلام كلما قابلته فى الكلية ويرد علىّ بسخرية، ولكنه انتهز فرصة استحقاقى لبعثة دكتوراه فى اليابان فوقف فى طريقى وأضاع البعثة علىّ وعلى الكلية متضامنا مع وكيل الكلية الذى كان صديقا له فأخّر الأخير ارسال ترشيحى الى الجامعة (صديقه ذلك أصبح عميدا للكلية ثم وزيرا للزراعة وكان أول وزير يطبّع مع العدو، رحم الله الجميع وغفر لنا ولهم)!
 
 
عدت بعد فض الاشتباك الثانى بعد حرب أكتوبر الى التدريس فى الكلية فى أبريل 1974.  لم تتوقف استدعائاتى للخدمة فى سلاح المدفعية طوال عامى 74 و 1975. كنت قد قطعت شوطا كبيرا فى دراسات الدكتوراه.  رشحت لتحضير الدكتوراه فى جامعة أوساكا فى اليابان.  كنت أقدم الحاصلين على الماجستير فى الجامعة بحكم استدعاءاتى المتكررة.  كان لوكيل الجامعة قريب له فى كلية أخرى.  واسكمالا لصدمات ما بعد القتال تأخر وكيل كليتى عن ارسال ترشيحى للبعثة عن عمْد.  فى يوم البت فى الترشيحات أعطى وكيل الجامعة البعثة لقريبه فى الكلية الأخرى.  فى نفس ذلك اليوم كنت قد انتزعت أوراق ترشيحى من الكلية وذهبت الى الجامعة لتقديمها بعد ساعة واحدة من ارساء البعثة لقريب وكيل الجامعة.  مع اننى كنت أول المستحقين للبعثة على نطاق الجامعة كلها الا أنّ وكيل الجامعة رفض اعادة النظر بعد ساعة واحدة من القرار الخطأ ولم يكن حبر قلمه قد جفّ بعد.  دخلت معه فى نقاش ازدادت حدتة عندما قال لى "كليتك تأخرت والقطار فاتك".  قلت له: "لم يفتنى القطار ولكنه لا يزال واقفا فى المحطة مغلقا أبوابه ونوافذه ليمنعنى من الدخول.  ثم اننى أقدم مدرس مساعد فى الجامعة وأول المستحقين وأيضا من "ضباط العبور".  ردّ على الفور ردا سفيها قائلا: "اذهب لمن قال لك أعبر لكى يبحث لك عن بعثة"!!!  دخلت معه فى حرب أخرى وصراع وقتال ضار استمر بضعة شهور.  كان الكثيرون فى الكلية وأولهم أستاذى الدكتور أحمد الشاذلى يخشون علىّ من الفصل من الجامعة.  كنت أصارع المحسوبية والفساد والسفه دون أن أبالى وبدون خوف ولا نقمة.  لم أكن قد عبرت وقاتلت فى الحرب من أجله ولا من أجل رضى الخلق ولكن لمرضاة الله تعالى، لذلك لم تهزنى سفاهة ولا ظلم البشر.
 
 
 
أفراد قوة موقع ادارة نيران السرية الثالثة لكتيبة المدفعية 814 فى الكيلو 14 شرق القناة. من اليمين الى اليسار: عرّيف عبد الموجود القط، عرّيف صادق نور عبد الحميد، نقيب محمد هاشم عبد البارى، عريف سعيد حافظ، رقيب أحمد الشرقاوى، جندى طه حامد السعيد،
القطاع الشمالى من جبهة قناة السويس- رأس العش- نقطة الكيلو 19 (أول موقع حصين سقط فى خط بارليف)، (بورسعيد فى1 مارس 1974 بعد فض الاشتباك مع العدو الصهيونى)
بلا اكتئاب ولا هلوسة ولا صدمة قذائف ولا ضغوط ولا اضطرابات ولا خدوش نفسية والحمد والفضل والمنّة لله تبارك وتعالى.
 
  يمكن أن نسمى أمثال تلك الوقائع بأنها "صدمات ما بعد القذائف" وليست "صدمات القذائف".  انّ "صدمات القذائف" أقل دنسا من "صدمات ما بعد القذائف".  ولكنّ العبد المؤمن لا تقلقه ولا تهزّه صدمات القذائف ولا ما بعدها.  اننى أتكلم عن كل من خاضوا حرب أكتوبر، ولا يفوتنى أبدا أن أؤكد بأنّ هذا هو نفس الشأن بخصوص أشقائنا فى غزة الحبيبة واخواننا المجاهدين فى أفغانستان وفى العراق وفى الشيشان وفى سوريا وفى مالى وكل من يجاهد لتكون كلمة الله هى العليا.  ها أنذا بعد نحو أربعين سنة من الحرب أكتب عن الحرب والنفس وأنا فى كامل الصحة العقلية النفسية والرضا (كما أتوهّم) بحمد الله وحوله وقوته وهمْ كذلك.  فى الوقت الذى يكتب فيه العدو الصهيونى والعدو الأمريكى بعد أربعين سنة من حرب أكتوبر وحرب فيتنام عن معاناة ضباطهم وجنودهم "البواسل" من البكاء والنحيب والاكتئاب الشديد والهلاوس والانتحار و"اضطرابات ما بعد الصدمة".
 
عدد المنتحرين من الجنود الأمريكيين يحقق رقماً قياسياً - BBC
www.bbc.co.uk/arabic/.../130125_usa_soldiers_suicide_rate.shtml
 
 
يا يهود الفلاشة، أنتم تركتم بلادكم الحبشة وهاجرتم الى أرض الميعاد. تمتعوا أيها الصهاينة وارتعوا فى أرض الميعاد الى حين. ستكون وبالا عليكم أرض الميعاد وعى شراذمكم من كل البلاد. ولكن هل وجدتم ما وعدكم هرتزلكم وبلفوركم حقا أيها الأوغاد؟
 
  الحمد لله على نعمة الاسلام والحمد لله على نعمة الايمان وكفى بهما نعمة.  وان تعدو نعمة الله لا تحصوها.
 
والى لقاء فى الجزء التاسع ان كان فى العمر بقية
باذن الله
                    محمد هاشم عبد البارى
7 مارس 2013
 
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق