توفى إلى رحمة الله تعالى الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى يوم 5 يناير نسألكم الدعاء له بالرحمه والمغفرة

الجمعة، 7 يونيو 2013

مخاطر الاعتماد على استيراد القمح -3 ( الجزء الرابع ) / أ . د محمد هاشم عبد البارى

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
مخاطر الاعتماد على استيراد القمح
 
مؤتمر " إنتاج القمح.. وأزمة رغيف الخبز " – نقابة الزراعيين بالإسكندرية – 24 مايو 2008
 
الأستاذ الدكتور / محمد هاشم عبد الباري
أستاذ الحشرات الإقتصادية
كلية الزراعة – جامعة الإسكندرية
prof.m.hashem@gmail.com
 
4-3  
 
لأول مرة فى تاريخ مصر
رئيس مصر يحتفل بحصاد القمح
قال فخامة الرئيس المصري الأستاذ الدكتور محمد مرسي إنّ بلاده وهي أكبر مستورد للقمح في العالم تريد التوقف عن استيراد القمح في غضون أربع سنوات والاعتماد على إنتاجها المحلي المتزايد.
وقال مرسي خلال احتفال بموسم الحصاد في حقل للقمح بالقرب من مدينة الإسكندرية في شمال البلاد:
"المعدلات عالية وممتازة"
وأضاف فخامته:
"نستهدف خلال سنتين أن نصل إلى 11.5-12 مليون طن، وبذلك نحقق  أكثر من 80 بالمائة من احتياجاتنا.  ونستهدف في أربع سنوات ألا نستورد قمحا إن شاء الله."
وقلصت مصر - التي تشهد أزمة اقتصادية ومالية شديدة بعد اضطرابات سياسية استمرت عامين - واردات القمح معوّلة على المحصول المحلي، وتعزيز كفاءة التخزين، لتوفير الخبز المدعم لسكان البلاد الذين يبلغ عددهم 84 مليون نسمة.
 
 
 
الحمد لله رب العالمين
 
 
إنّ مصر وبقية الدول العربية والإسلامية لا يزالون ليسوا فى غنى عن تلك المحاضرة ومثيلاتها بعد أن وضع فخامة رئيس مصر نصب عينية فيما وضع اكتفاء مصر من قمحها.  فالمحاضرة تحضّ كل الدول الإسلامية على اكتفائها من قمحها وقوتها من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنها تلقى الضوء على نوعية القمح والغذاء الذى كان يُصرّ النظام السابق فى مصر على أن يطعمه المصريين، وكيف كانت الزراعة تُقتل فى مصر، وهى عصب الحياة، لصالح العدو الصهيونى والولايات المتحدة والغرب.
***
 
الإرجوت
 
لمحة تاريخية عن داء الأرجتة
منذ نار سينت أنطونيو ورقص سينت فايتاس حتى اليوم
 
 
ظهر داء الأرجتة (وهو التسمم بالإرجوت "الإرجوتيسم ergotism") في أوروبا في العصور الوسطى المبكرة، وتجلى في أشكال غنغرينية أو تشنجية.   وانتشرت أوبئة الأرجتة التشنجية بين 1085 و 1927م شرق نهر الراين في أوروبا.  ونستعرض هنا السمات الرئيسة لتاريخ الأرجتة ومظاهرها السريرية.  ونناقش الإتصال بين أعراض الأرجتة، وهو من أهم الأحداث الديموجرافية والتاريخية والاجتماعية في العصور الوسطى.  ومنها نقدم لمحة تاريخية موجزة عن اكتشاف الأدوية المضادة للصداع النصفي.  ونلقى الضوء كذلك على حالات جديدة من الأرجتة الراجعة إلى الإفراط في استخدام الأدوية السيراتونينية  "serotoninergic"وهى العقاقير المستخدمة لعلاج الصداع النصفي و تفاعلاتها الحرائكية الدوائية.
 
فلقد كان للأرجتة تأثير كبير على العديد من الأحداث الديموجرافية، والتاريخية، والاجتماعية الأوروبية؛ والحركات الدينية وحتى على الفن.  وينبغي على الأطباء أن يكونوا على بينه من أعراض الأرجتة التي يسببها الإفراط في استخدام عقاقير مجموعات الإرجوت والتريبتان  triptan والتفاعلات الهامة مع مثبطات الماكروليدات macrolides وإنزيم بروتياز فيروس نقص المناعة البشرية HIV"".
 
الإرجوت من نبات الحبوب الجاودار (سيكيل  كورنوتام  Secale cornutum) وهو مرض محاصيل الحبوب التي يسببها الفطر الأرجواني "كلافيسيبس بوربيوريا Claviceps purpurea"   .  ويُنتج فطر الإرجوت القلويدات (سموم فطرية mycotoxins) التي تسبب داء الأرجتة أو الإرجوتيسم  في البشر والحيوانات.  ولقد أمكن عزل ستة من أهم أزواج  قلوانيات الإرجوت (منها  (الإرجوتامين ergotamine، ارجوكريستينيرجوميترين ergocristineergometrine ، إلخ). وهم جميعا مشتقات لحمض الليسرجيك " "lysergic acid.  ويزيد من قابلية الإصابة بالإرجوت بين محاصيل الحبوب الظروف التي تطيل من فترة التزهير، ويحدث ذلك في ظروف الطقس البارد الرطب، والتربة الرطبة وهى الظروف الصالحة لإنبات القرون الحجرية للإرجوت لتعطى وتنشر جراثيمها.  وتختلف نسبة المركبات المُنتجة من تلك القلويدات باختلاف نوع الأرجوت.  وعلى ذلك، فقد يتعرض الشخص الذي عانى من التسمم بالإرجوت مرة لأعراض مختلفة من التسمم بالإرجوت مرة أخرى.
 
و للأرجتة شكلين:  شكل غنغرينى، ويسمى نار القدّيس أنطونيو (St.Anthony Fire )   ، و شكل تشنجي، ويسمى رقص القديس فايتاس .(St.Vitus Dance)   في الأرجتة الغنغرينية  يكابد الناس الغثيان والألم في أطرافهم.  فالأطراف الجسدية تسودّ كثيرا في كثير من الحالات وتجف، وتصبح محنطة، ذلك مما يتسبب في تكسير الأطراف المصابة بصورة عفوية عند المفاصل.  وكثيرا ما يحدث أيضا الإجهاض العفوي للنساء الحوامل.  ولقد قاد الإحساس بالاحتراق الأولى إلى إطلاق الاسم اللاتيني "إجنيس ساسير "ignis sacer مما يعني "النار المقدسة"!   لقد كان هذا الداء البشرى رهيبا، حتى أنّ أوامر كهنوتية صدرت منذ عام 1093 وتعليمات بتأسيس ملاجئ القديس أنطونيو  في جنوبي فرنسا لمساعدة المصابين.  ولأنّ القديس أنطونيو ذلك كان هو القديس الشفيع لأهل النار في عقيدتهم فقد سمى الداء "نار القديس أنطونيو"!  لقد بنى الرهبان أكثر من 370 مستشفى، وكان أولئك الذين جاءوا في كثير من الأحيان الى تلك المستشفيات غالبا ما يعثرون على التخفيف من الأرجتة.  وربما كان ذلك يرجع إلى عدم وجود خبز الجاودار في وجبات المرضى أثناء العناية بهم في تلك المستشفيات.
 
وتتسم الأرجتة التشنجية بخلل وظيفي عصبي- نوبات من الألآم وتشنجات تشبه الارتعاشات.  ويكون ذلك مصحوبا في بعض الحالات بالهلوسة، والهوس أو الذُهان.  وقد أوحى هذا النموذج من الأرجتة تفسيرا علميا ممكنا لبعضٍ مِن تفشي هوَس الرقص ، وهى الظاهرة التي حدثت أساسا في قارة أوروبا من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر، والتي تميزت بالهستيريا الجماعية، وحركات الجسم بنشوة غير منضبطة والتشنجات والهلوسة.  ولكنّ الظاهرة الإيطالية كانت مخالفة، فقد كانت تعرف باسم الترنَتة  "تيرانتيسم "tarantism، لأنه كان يُعتقد بأنّ المرضى قد أصيبوا بعضّات العنكبوت الرُّتيْلاء (tarantula spider)، التي كانت يعتقد أنها لا تُشفى الا بالرقص على موسيقى خاصة ، والتي يفترض أنها العلاج الوحيد الذى يبدد "السم" من دمائهم!
 
ومن أجل طرد الشياطين الذين كانوا يعتقد بأنهم سبب ذلك الهوَس، كان الناس غالبا ما يُصلّون إلى سينت (القديس) فايتاس Saint Vitus .  فوفقا لأسطورة مسيحية، كان سينت فايتاس قديسا مسيحيا من صقلية.  توفي باعتباره شهيدا خلال اضطهاد المسيحيين فى حكم الأباطرة الرومان في 303م.  ويعتبر فايتاس واحدا من أربعة عشر مساعدا مقدسا  للكنيسة الكاثوليكية الرومانية.  ويتم الاحتفال بيوم القديس فايتاس يوم 15 يونيو.  ويُعتبر فايتاس ذلك شفيعا فاعلا، للكوميديين (الهزليين)، وللراقصات ، وللذين يعانون الصرع.  وزُعم أيضا أنّ له يد طولى فى الحماية من البرق والصواعق وهجمات الحيوان والنوم الطويل، وهو شفيع كذلك للبوهيميين (الهائمين والمتشردين) والغجر!  (إنّ الحسنة الوحيدة فى تلك المعتقدات هى اعتبار سكان القرون الوسطى فى أوربا أنّ الكوميديين والراقصات أصحاب خطايا وفى حاجة الى الشفاعة!  ولكنّ رقّاصاتنا اليوم ، وبعد أربعة عشر قرنا ونصف من سطوع نور الإسلام عليهن وعلى الدنيا بأسرها، يعتبرن أنفسهن ويعتبرهم الكثيرون أنهنّ فنانات ومبدعات، بل إنّهنّ كثيرا ما يظفرن بلقب "أستاذة" عند تقديمهن للجماهير ناهشة اللحوم.  ولكننى لا أدر إن كانت شفاعة ذلك القديس فايتاس يمكن أن تمتد الى راقصاتنا الشرقيات وزبائنهن.  على أية حال لا أعتقد ذلك، فرقّاصتنا يرقصن بمحض إرادتهن دون أن يتناولن خبزا ملوثا بالإرجوت، وإنما دائما ما يأكلن أفضل خبز لدينا ولا يرتدين شيئا برغم أنّ راقصات القديس فايتاس كنّ لا يُرى منهن فى ذلك الوقت من القرون الوسطى الأوربية إلا الوجه والكفّان!!!   ورقّاصاتنا وكوميدياتنا لا يعتبرون أنفسهم خاطئين، وانما عندما يمثلون الفاحشة تحت أضواء وعيون وعدسات كاميرات المصورين ويعرضونها على الملايين من العيون ينالون الجوائز الثمينة المعفاة من الضرائب فضلا عن الملايين التى يتقاضونها أجرا عن تلك الأتعاب، فى الوقت الذى راتب أستاذ الجامعة ولا المدرس ولا الطبيب ولا واعظ المسجد ولا المهندس يكفيه طوال الشهر.  ويبلغ انكارهم لخطاياهم درجة الاستعباط  واستخفاف العقول، فيزعمون أنهم ليسوا هم أو لسن هنّ الذين يأتون ويأتين الفاحشة علنا تحت الأسماع والأبصار وإنما الشخصيات التى يمثلونها هى التى تفعل ذلك!!!  إن الهزْليين (الكوميديين) عندنا يحصلون على أعلى الرواتب والدخول مقابل الأتعاب!  ولذلك فان الهزل (الكوميديا أو "المسخرة") تجتذب البعض ممن أنهوا دراساتهم فى الجامعات فى تخصصات مختلفة وحتى منهم من أنهى دراسة الدكتوراه فى الطب والجراحة وترك التدريس الجامعى ليتقاضى الملايين من الجنيهات والدولارات واليورو من كل حدَب وصوب لكى "يتمسخر" أمام الجماهير ويتطاول ليس على الشرفاء وعلى رأسهم فخامة رئيس البلاد الشرعى المنتخب فحسب بل وعلى الإسلام وشريعته ومبادئه.  ونحمد الله أنّ هؤلاء "المسخرجية" قد هجروا تخصصاتهم أو هجرتهم تخصصاتهم إن كانت طبا أو زراعة أو هندسة أو اقتصادا لأنهم لا يؤتمنون على أداء أى مهام فى تلك التخصصات ولا فى غيرها.  ولذلك فإن هؤلاء وهؤلاء ومن وراءهم وأمثالهم من الناس يكرهون حكم الاسلام وشريعة الاسلام ومن يحمل همّهما.  إنّ أملى كبير في توبتهنّ وتوبتهم جميعا حتى لا يُحشرن ولا يحشرون مع هؤلاء المؤرجَتين من سكان العصور الوسطى وحتى لا يضطرون الى استجداء شفاعة الفايتاس المزعومة، وهيهات).
 
"إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ () وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ"
(البقرة 166، 167)
 
"وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ"
(التوبة - الآية 114)
 
ويشير مصطلح "رقص سينت فايتاس" إلى المتلازمة المعروفة باسم رقّاص سيدنهام (sydenham's chorea)- وهو مرض عصبى.  تلك المتلازمة التي لا علاقة لها مطلقا بالرقص الهوسى.  إنّ الأرجتة ربما لم تكن هي السبب الوحيد للرقص الهَوَسى، وإنما تشارك فيه أيضا العوامل الأخرى الناجمة عن الظروف الاجتماعية المعاكسة لحياة هؤلاء الناس.
 
ويمكن أن يحدث شكل من الأرجتة الغنغرينية التشنجية  في نفس الوقت (شكل مختلط).  إنّ السبب في انتشار الأرجتة الغنغرينية في غرب نهر الراين والأرجتة التشنجيية  في شرق النهر ليس من الواضح حتى يومنا هذا.  ولكنّ أغلب الظن، أنه يعتمد على أنواع الإرجوت (نحو 36 نوع)، وبناء على ذلك، فقد يعتمد على المحتوى النوعي والكمي من تلك السموم الفطرية.  إنّ آخر حادثة لتفشى داء الإرجتة، والتي تسببت في أكثر من 200 حالة اصابة  ووفاة 4 أشخاص، وقعت في عام 1951 في بونت سينت إسبري ، على نهر الرون بفرنسا،  على الرغم من الجدل المثار حولها.
 
 
الكشف عن أسباب الأرجتة
كان الطبيب الألمانى ف. ثيليوسW. Thelius) ) قد قدم سردا لهذا الوباء الذي استشرى في مملكة هيسيه في 1596م.  وكان واحداً من الأوائل الذين أرجعوا سبب الأرجتة إلى الحبوب.  وفي عام 1670، قرر الطبيب الفرنسي الدكتور  تايلر Dr.Thuillier) )  أن الأرجتة لم تكن مرضاً مُعدياً.  كما أشار إلى أنها تقع بالأحرى في المناطق الريفية الفقيرة عنه في المناطق الحضرية غير الصحية والمكتظة بالسكان.  وبالبحث عن سبب الأرجتة توصل الى أنّ المصدر هو الغذاء.  فقد لاحظ الإرجوت في الجاودار فى الحقول.  كان الفلاحون يتناولون الإرجوت في شكل خبز الجاودار.  لاحظ تايلر أيضا أنّ السنوات التي كانت قرون الإرجوت تملأ سنابل  الجاودار هي التي احتدم فيها وباء "النار المقدسة" في الريف وهلك فيها المئات من الأشخاص.  ولكنّ المزارعون لم يصدقوا ذلك وكانوا يعتبرون  الإرجوت غير ضار.
 
في عام 1853، اشتغل لويس رينيه تولانسي ((Louis Rene Tulanse - العالم المبكر في علم الفطريات - على دورة حياة إرجوت الجاودار.  أجرى تولانسي تجارب عديدة، وخلص إلى أن الارجوت نوع من الفطريات.  وكان يعلم أيضا أنّ الإرجوت قد استخدم بجرعات بواسطة الكيميائيين لتسريع ولادة الأطفال.  وأنّ هذه الارجوتات لم يكن ينبغي أن يأكلها البشر أو الحيوانات نظراً لاحتوائها على سموم.  لذا، فقد تم الكشف عن قضية الأرجتة في الماضي.  ووفقا لعلم الصيدلة النفسية الحديث (سيكوفارماكولوجى   (psychopharmacology ، فإن الأرجتة (لا سيما التشنجية) قد تمثل تنبيها سيروتونيا (serotonergic) زائدا للجهاز العصبي المركزي (أي، متلازمة السيروتونين).
 
 
الأرجتة، و"الطاعون الدِمّلي و الأحداث التاريخية الأخرى"
 
كانت أوروبا خلال العصور الوسطى المتأخرة، في سنوات القرن الثاني عشر الميلادي،  في فترة من النمو الجيد نسبيا في الصحة والسكان.  على أية حال فقد انتهى ذلك بين 1348-1350م، عند الضربة الرئيسة لوباء الطاعون الدِمّلي.  ويقدر أنّ ثلث سكان أوروبا كانوا قد ماتوا نتيجة لمرض الطاعون.  وعلى الرغم من أنّ أعداد القتلى في هذه النكبة كانت عالية إلا أن الهبوط في سكان أوروبا استمر حتى 1490م.  ولقد حيّر ذلك الأمر المؤرخين، لأنه حتى مع ذلك العدد الكبير من الوفيات، فإنّ استعادة السكان كانت ينبغي أن تكون قد وقعت بالجيل التالي، إلا إذا كان ذلك ينطوي على عوامل أخرى.  ويعتقد ماتوسيان أنه الإرجوت، فهو يضعف الجهاز المناعي لدى الانسان بشدة، فإنّ استهلاك الحبوب المصابة بالإرجوت يزيد من الوفيات.  وفى أثناء وباء الطاعون كثيرا ما كان الرجال مُجبرون على استهلاك الغذاء دون المستوى والذي كان ملوثاً بالعفن بما يزيد عن الأرجح.  وقد كان معروفا تماما أنّ الطاعون كان قد أعقبه الشتاء البارد على نحو غير عادي.  وفي تلك السنوات كان الجاودار أكثر صمودا وبقاء وتوفرا من القمح.  ومن المعروف كذلك أنّ التسمم بالإرجوت يخفض من الخصوبة ويسبب إجهاض الحوامل.  إنّ استعادة أوربا لنموها السكاني توقف لقرن من الزمان.
ولاحظ العلماء في جامعة ماربورج في 1597م أن علامات الأرجتة غالباً ما كانت تظهر بعد أن كانت تُستهلك حبوب الجاودار المنكوبة، وأن تلك الآفة  تتزايد بظروف مواسم تزايد الرطوبة الباردة.  في 1630م، لوحظ أن تغذية الحيوانات بالحبوب تنتهى بمرض شبيه بالأرجتة البشري، وبنهاية القرن الثامن عشر، تجلى التسمم في الحيوانات.  وعلى الرغم من أن مصدر الأرجتة كان يرتبط باستهلاك الجاودار المصاب قبل عام 1676م، فقد كانت هناك موجات كبيرة من الأرجتة في أوروبا في عامي 1770 و 1777م والتي دفعت إلى ادخال التشريع في فرنسا وفي أماكن أخرى.  ولقد سُجلت الأوبئة من غنغرينا الأرجتة منذ العصور الوسطى إلى القرن التاسع عشر، في حين أن الأرجتة التشنجية كان توثيقها بين عام 1581 وعام 1928م.
حبوب الجاودار ((rye فى المنتصف، وحبوب التريتيكيل الى اليمين، وحبوب القمح (wheat) الى اليسار.  والتريتيكيل (triticale)، وهو يعنى "نجيليات"، من محاصيل الحبوب المستحدثة فى المملكة النباتية، وهو أول هجين بين القمح والجاودار (حشيشة الراى) يجمع بين صفاتهما.
ومن عام 1926 إلى 1927، كانت قد سُجلت  نحو 11,319 حالة من الأرجتة بين تعداد قدره نحو 506,000 من البشر في محيط سارابول، قرب جبال الأورال.  وفي عام 1928، كان 200 من اللاجئين اليهود في مانشستر، انجلترا، قد أصيبوا عندما استهلكوا خبز الجاودار الذى كان قد أعد من الجاودار المزروع في جنوب يوركشاير.  وفي منتصف أغسطس من عام 1951، كان 230 من السياح القرويين الفرنسيين الشعبيين من مدينة بونت سينت-إسبري على نهر الرون قد سقطوا مرضى بعد إدخال البضائع الملوثة من المخبوزات المحلية.  لقد مرضوا بعنف مع أعراض شديدة لاضطراب الجهاز الهضمي مع انخفاض شديد في درجة حرارة الجسم، والهلوسة، والنشوة، والتفكير بالانتحار.  وفي غضون أيام، أصبح البعض في حالة هياج شديد، وآخرون اشتكوا من الشعور بحروق مؤلمة في الأطراف، وبلغت ذروة المأساة في تطور الغنغرينا في بعض المرضى.
 
خبز الجاودار (حشبشة الراىrye ) الذى كانت تعيش عليه أوربا فى العصور الوسطى ولا تزال تأكل منه حتى الآن.
 
الأرجتة والسحر
وعندما مرضت أعداد كبيرة من الناس بأعراض الأرجتة، لا سيما التشنجات والهلوسة، خلص الكثيرون في القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى أنه من المؤكد أنهم وقعوا ضحايا للسحر والسحرة الذين أصابوهم بلعنة تلك الأعراض.  وقد درس بعض الباحثين المعاصرين حتى الدور المحتمل للأرجتة في محاكمات ساحرات سالم في ولاية ماساتشوستس عام 1692.  فلقد انتشر الاعتقاد بالسحّارات في أوربا في العصور الوسطى في القرنين السادس عشر والسابع عشر حتى بلغ درجات الهوس والهيستيريا  بترويج من الكنيسة على نطاق واسع ورافقه إعدام أعداد كبيرة من النساء بتعذيبهن وحرقهن في أنحاء أوربا، وهم يعلموننا الآن ما هى حقوق المرأة!
 
وبانتهاء القرن السابع عشر كانت تلك الهستيريا قد عبرت المحيط الأطلسي الى المستعمرات في نيو إنجلاند شمال شرق أمريكا فحدثت خلالها سحّارات سالم التي أصبحت قضية كبرى انتهت بمحاكمات سالم في ماساشوسيتس الشهيرة وأعدم فيها الكثيرات.  نسبت تلك المحاكمات الى قرية سالم Salem Village ولكن جرت تحقيقات ومحاكمات في مناطق أخرى في ماساشوسيتس مثل أندوفر Andover، و ايبسويتش Ipswich ، و مدينة سالم Salem Town.
استمرت مأساة محاكمات السحر التاريخية في سالم ما يزيد عن السنة، سُجن فيها 350 شخصا وأعدم خلالها 19 شخصا شنقا منهم 14 امرأة وخمسة رجال، ومات في السجن رجلان جرّاء التعذيب.
 
الأرجتة والحركات الدينية
في أربعينات القرن الثامن عشر ، وهى فترة أو سِن ما يسمونه بالعقلانية أو المنطقية لأوربا، كانت أعراض الإرجوت قد أصبحت علامة من علامات القداسة، وليس الشيطنة!  كانت الرؤى والتهيؤات، والغيبوبة، والتشنجات تُقرأ على أنها نشوة دينية.  ولا أدر أين هى العقلانية وأين هى المنطقية فى ذلك!  لقد كان التناول المزمن للإرجوت الذى يُسفر عن مجموعة متنوعة من الأعراض النفسية العصبية والأعراض الوعائية الدموية و يتزامن أيضا مع مختلف الحركات الروحانية، مثل حركة التزمت ((Pietist المبكرة في ألمانيا، والحركة الاسباتية (Sabbateanism) وهى الامتناع عن العمل يوم السبت أو التشدد بضرورة الامتناع عنه يوم الأحد، وحركة تشاسيديسم  (Chasidism).  إنّ حركة التشاسيديسم أو الحاسيديسم هى المعتقدات والممارسات من الطائفة اليهودية الروحانية، تأسست في بولندا حوالي 1750، وهى تتسم بالتركيز على الصلاة والحماسة الدينية، والابتهاج (ولقد كانت معتقدات وممارسات طائفة "الورع" اليهودية قد تأسست أيضا في القرن الثالث قبل الميلاد لمقاومة نزعات الحضارة الإغريقية القديمة وتعزيز التقيد الصارم بالقوانين والطقوس اليهودية).  وترتبط حركة الحاسيديسم ارتباطاً مباشرا بعقاقير الهلوسة  LSD (ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك).  ولقد اشتهر عقار الهلوسة في الستينات من القرن العشرين من خلال اثنين من أساتذة جامعة هارفارد في علم النفس وهما  "ت. ليرى  و  ر. ألبرت ، ذوى السمعة السيئة، واللذان أطلقا شعارا يدعو الى تعاطى العقار والانقطاع عن الدراسة والذي أدى الى تسارع حركة المخدر المثير لاضطرابات الإدراك  في الطبقة الوسطى الأمريكية (غاية العقلانية!).
 
كانت التجارب اللامبالية مع طلاب الكلية على العقاقير ذات التأثير النفساني قضية كافية لأن يطرد كل منهما طردا مهينا من جامعة هارفارد.  وفي عام 1966 نظم ليرى "اتحاد الاكتشاف الروحي"، الذي كان يعتبر تعاطى عقار LSDفيه طقسا دينيا.  ولقد أدانت الولايات المتحدة ليرى على موقفه من مخدر LSD والماريجوانا, ولكنه هرب الى الجزائر وأمضى عدة سنوات هناك في السجن.  وأما ألبرت فقد هرب الى الهند تحت اسم جديد.
 
 
عزل قلويدات (قلوانيات (Alcaloids الإرجوت السامة
 
ولقد أجريت محاولات لعزل القلويدات النشطة من الإرجوت منذ منتصف القرن التاسع عشر فصاعدا.  وكان يعتقد في البداية أنّ المادة إرجوتوكسين، التي عزلها كل من ه. ديل و ج. بارجر G. Barger  و H. Dale  في عام 1906، هي مادة نقية.  ولكن تبين لاحقاً أنها خليط من أربعة قلويدات.  القلويد الأول منها ، وهو الإرجوتامين، الذي لا يزال يستخدم لعلاج الصداع النصفي الحاد، عزله أ. ستول  A. Stoll  في عام 1918.  ثم عُزل "الإرجومترين ب" بواسطة كل من ك. موير و ه. و. دودلى C. Moir   و H. W. Dudley في عام 1935.   وفي عام 1938، اشتقّ كلا من أ. ستول  و أ. هوفمان  A. Hoffman و A. Stoll، "إيثيل أميد حمض د-الليسرجيك .(LSD)   ولقد كان يُظن أن  LSD  قليل الأهمية نسبيا حتى ابتلع أ. هوفمان كمية صغيرة من العقار بقدر الله.  وفي عام 1943، قام أ. هوفمان بتصنّيع عقار "ديهيدروإرجوتامين" وتسويقه لعلاج ارتفاع ضغط الدم، وفي وقت لاحق- لعلاج الصداع النصفي ((migraine.  ولقد اكتشف كيميائيو  شركة "ساندوز" رغم ذلك عقارا آخر هاما للصداع النصفي، وهو "ميثيسيرجايد" methysergide) ) .
 
 
تبيع الصين اليوم مستخرج الشقران (الارجوت) بمبلغ 450 دولار أمريكى للكيلوجرام تسليم ميناء شنجهاى بكميات تصل الى طلباتها الى 1000000 كيلوجرام فى الشهر للطلب الواحد!
 
وعقار ميثيسيرجايد  يستخدم للعلاج الوقائي اليومي أكثر منه كعلاج فاشل للصداع النصفي، والميثيسيرجايد  خصم للسيروتونين، بينما الإرجوتامين مشجع للسيروتونين.  انّ القيود الرئيسة لاستخدام قلوانيات الإرجوت هو ارتفاع المعدل النسبي لحدوث الآثار الجانبية.  إنّ الإفراط  في استخدامها يرتبط بتنمية الصداع المزمن المرتد وخطر الأرجتة.   إنّ الميثيسيرجايد قادر على التسبب في مضاعفات التليفfibrotic) ). ويشتبه في وجود تلك المخاطر في أدوية الإرجوت الأخرى.
 
 
وتنتمى قلوانيات الإرجوت من الناحية التركيبية إلى مجموعة الأمينات الحيوية " biogenic  amines"، السيروتونين  ((serotonin والنورابينيفرين (norepinephrine) والدوبامين ((dopamine.  وبسبب تشابهها التركيبي  مع الناقلات العصبية، فهي تمارس تأثيرات واسعة النطاق على المستقبلات العصبية الأدرينالينية (adrenergic receptor ) ، والمستقبلات العصبية الدوبامينية ((dopaminergic، والمستقبلات العصبية السيراتونينية (serotoninergic) ، والمستقبلات العصبية النورابينيفرينية  (فلكل نوع من ناقلات الاشارات العصبية من خلية عصبية الى أخرى مادة مستقبلة متخصصة للإشارة لذلك النوع من الناقلات على الخلية العصبية المتلقية للإشارة العصبية.  ولأن قلويدات الإرجوت تتشابه معها تركيبيا فهي تناوئ تلك الناقلات العصبية على مستقبلاتها المتخصصة).
 
وتؤكد العديد من الملاحظات السريرية والتجريبية أنّ للسيروتونين دوراً رئيسا في إنتاج نوبات هجمات الصداع النصفي أو الحفاظ والابقاء على تلك الهجمات.  ولقد بدأت حقبة جديدة للعقاقير المضادة للصداع النصفي في عام 1973 مع الجهود الرامية إلى تصنيع مُحفزات للسيروتونين أكثر انتقائية بين مجموعة مركبات التريبتانات ((triptans.  ولقد أدخل العقار الأول - وهو سوميتريبتين ((sumatriptan - في عام 1991.
 
 
وإلى لقاء فى الحلقة 3-5 وهى الأخيرة عن الإرجوت
بمشيئة الله تبارك وتعالى
 
محمد هاشم عبد الباري
19 رجب 1434 ه
29 مايو 2013م
 
 
 
 

هناك تعليق واحد: