توفى إلى رحمة الله تعالى الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى يوم 5 يناير نسألكم الدعاء له بالرحمه والمغفرة

الخميس، 8 ديسمبر 2011

أيتها الجميلة الرائعة..إلى أين / أ.د محمد هاشم عبد البارى

بسم الله الرحمن الرحيم
أيتها الجميلة الرائعة..
الى أين ؟

الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد الباري
^^^^^^^^^^^^

كنت طالبا في السنة الرابعة الإعدادية في عام 1956 بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية الإعدادية بمحرم بك، وفى العام التالي التحقت بمدرسة العبّاسية الثانوية بمحرم بك أيضا، حيث كان يلتحق بها الطلاب ذوى الدرجات العالية في الشهادة الإعدادية.  كانت مدرسة العباسية مدرسة عريقة متميزة للغاية عن جميع مدارس الإسكندرية، اننى أفتقدها كثيرا وأحن إليها للغاية.  ومنذ تخرجت فيها في الثانوية العامة لم تطأها قدمي بالرغم من شوقي إليها، وبالرغم من مروري بالقرب منها طوال الفترة من 1959 وحتى أعوام مضت.  منذ أكثر من نصف قرن وأنا أتجنب المرور في شارعها حتى أستطيع أن أمنع نفسي من دخولها.  أحب مدرسة العباسية الثانوية حبا جارفا، ولكنني لا أريد أن أدخلها وحرمت نفسي طوال تلك الأعوام حتى لا أرى ولا ألمس ما اعتراها مما اعترى سائر مصر من تدهور،
وحتى تظل ذكراها الجميلة العظيمة وحتى تظل صورتها الناصعة وحتى تظل سيرتها العطرة عندي وفى نفسي كما هي!  إن مشاعري نحو مدرستي الإعدادية أقوى وأشد، ولكنني أتجنب المرور عليها أيضا، فكفاني أنهم غيّروا اسمها ومحوْا منه صفة الخير والإسلام!  لا أكتمكم أنني وأنا أكتب هذا أنني لا أستطيع إيقاف انهمار دموعي ولا استحى من ذلك وأنا في هذه السن.


عندما التحقت بالمدرسة لعباسية الثانوية كان مقررا علينا دراسة اللغة الفرنسية كلغة أجنبية ثانية في المرحلة الثانوية.  درست تلك اللغة لمدة أسبوعين وكنت أضيق بها ذرعا.   لقد ضايقتني تلك اللغة وأعيتني بنطقها وطراوتها وبكلماتها.  فلم أسترح لطريقة التحدث بها، وكنت أخجل من نفسي عندما أنطق كلماتها.  هكذا كنت أنا!  تلك الكلمات التي يتكون كثير منها من 10-12 حرفا ولا تنطق منها إلا بضعة حروف.  كنت أساءل نفسي يوميا:  ولمّا هم ينطقون بضعة حروف من الكلمة فلماذا لا يكتفون بكتابة تلك الحروف المنطوقة؟!  ومن ناحية أخرى كنت أتساءل بيني وبين نفسي:  من أين ستحصل على الذاكرة التي تحفظ الحروف المنطوقة وغير المنطوقة؟!  ويوما بعد يوم تكاثرت علىّ الكلمات التي كان يتوجّب علىّ حفظها وكرهت تلك اللغة،  وضاقت على الأرض بما رحبت وضاقت علىّ نفسي، وتحيّرت في أمر نفسي وفيما يمكنني أن أفعل.  فالمقررات إجبارية وليس في ذلك الأمر هزل!!

مرّ علىّ أسبوعان وأنا حيران، وليس لي ملجأ ولا ملاذ ولن يقبل أحد حتى أن يسمعني أصلا أو قد يقولون أنني مجنون، وبخاصة أن أغلب زملائي كانوا ينطقون ويتبارون في تسميع هجاء الكلمات وكأنهم ولدوا في الألزاس واللورين!   لم تكن كراهيتي للفرنسية للأسباب التي ذكرتها فحسب،  ولكن كانت كراهيتي للفرنسية والفرنسيين منذ دراستي للتاريخ المزيّف والذي زيّفته الثورة مبكرا والذي لا يزال يزيّف حتى الآن يوميا.   وحتى الأخبار الرسمية مليئة بالتزييف والتزوير والأكاذيب فهم لا يزيفون ماضينا فحسب ولكنهم يزيفون حاضرنا الذي نعيشه أيضا.   فالأبيض يصبح أسودا والأسود يصبح أبيضا، والأحمر يصبح أصفرا والأصفر يصبح أزرقا، والقالب يصبح نصفا ونصف القالب يصبح قالبا، والخسيس يصبح أصيلا والكريم يصبح لئيما.   فطالما كنا في الإعدادية (كانت دفعتي أول من طبق عليها نظام الإعدادية وكانت 4 سنوات) ندرس الحملة الفرنسية وفوائد الحملة الفرنسية ومزايا الحملة الفرنسية وكرامة الحملة الفرنسية وبركات الحملة الفرنسية، وأن "نابوليون" كان منقذا لنا ومنتشلا لنا من غياهب الجهل ومستنقعات التخلف!!  لم تكن دراسة التاريخ مستساغة عندي ولم تكن تروقني، وبخاصة عندما كانوا يمجّدون في استعمار أو استحمار الحملة الفرنسية و"نابوليون بونابرت" لمصر ويتباكون على قتل "كليبر"، وفى نفس الوقت يتحدثون عن "الدولة العثمانية" و"الباب العالي" و"الأستانة" على أنها استعمار تركي بغيض!!  كيف وقد كانت دولة الخلافة؟   كنت لا أقنع بذلك التاريخ، وكنت أستذكره على مضض لكي أنجح ولكنني كنت أحب الجغرافيا.  انتهيت من التاريخ وتزييفه في الإعدادية لكي اصطدم باللغة الفرنسية في الأولى الثانوية!

وفى يوم من أوائل الأسبوع الثالث جائنى الفرج!   ففي طابور الصباح الذي كان يحضره مدير المدرسة العريقة ووكلاءها ومعلموها وموجهوها (كنّا نفخر ولا زلت أفخر بأن ثلاثة أرباع مؤلفي كتب الثانوي الحكومية والخارجية على مستوى الجمهورية كانوا من المدرسة العباسية، وكانوا يدرّسون لنا ويحضرون الطابور).  فقد أعلن مدير المدرسة "السيد/ محمود مرسى راشد" - رحمه الله رحمة واسعة ونعّمه في قبره وأدخله الجنّة برحمته – وكان رجلا عظيما فذّا حقا –  أعلن أنه ينوى إدخال تدريس اللغة الألمانية في المدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية كلغة أجنبية ثانية، وأنّ ذلك سيتم لأول مرة في مصر على مستوى الجمهورية!   كان ذلك الإعلان بمثابة البرد والسلام على نفسي الحائرة، وإنقاذا لي من اللغة الفرنسية ونطقها وحروفها الحاضرة الغائبة.  قال المدير رحمه الله أنه سيكوّن أول فصل في الجمهورية يدرس الألمانية، فمن يرغب فليتقدّم خارج الطابور فكنت أول الخارجين من الطابور، وقد انزاح من على صدري الهم والغم والنكد.

بالطبع لم أكن أعرف كنه اللغة الألمانية تلك،  ولكنني كنت واثقا من أن أية لغة سوف تكون عندي أفضل من الفرنسية لغة "نابوليون" والحملة الفرنسية.  وقد كان.   ولقد كنت أقرأ كثيرا عن براعة وذكاء ثعلب الصحراء القائد الألماني الفيلد مارشال "روميل" في معركة العلمين شمال صحراء مصر الغربية في الحرب العالمية الثانية، وكنت أحترمه بالرغم من هزيمته أمام الفيلد مارشال الانجليزي "مونتجومرى".  فيكفيني أن "روميل" كان ضد الانجليزى "مونتجومرى" ولم يكن الاستعمار البريطاني لمصر ولم يكن العدوان البريطاني الفرنسي الصهيوني عنا وقتئذ ببعيد،  فقد كان في العام الماضي 1956.

تكوّن في ذلك الصباح فصل من 32 طالبا، وتركنا فصولنا الأصلية وتجمّعنا في الحال في فصل جديد.  كان المدير رحمه الله قد تعاقد مع قنصل ألمانيا في الإسكندرية ليقوم بنفسه بالتدريس لنا، وكان ذلك في نفس الأسبوع.  تمت طباعة الكتب لأول مرة وفى ألمانيا وكانت في أيدينا بعد أسبوعين اثنين.  كانت همّة عالية وانجاز منقطع النظير.  فلم يكن هناك وزير تعليم أمنى يرهب التلاميذ والمعلمين والآباء والأمهات وابن وزير داخلية مجرم كان يضرب الشرفاء في سويداء القلب، ويسخر من آيات القرآن الكريم ويهزأ باللغة العربية في مجلس الشعب على الهواء،  اللغة التي سوف يحاسب بها وعليها يوم يقوم الناس لرب العالمين.  ذلك المدير العظيم أخذوه منّا ومن مدرستنا وجعلوه عميدا لمدرسة الألسن في القاهرة ( وهى الآن كلية الألسن)، وكان أول عميد لها.  ولكن، بقدر ما كان  حزننا على حرماننا منه وفراقنا له بقدر ما كان فخرنا بأن مديرنا أصبح عميدا لمدرسة الألسن التي أنشأها،  كان ذلك بعد عامين من إدخاله اللغة الألمانية في مصر.


أمضى القنصل الألماني العام الأول لنا في تدريس الألمانية، ولم يكن ينطق بحرف واحد من اللغة العربية أو الانجليزية من أول يوم له حتى آخر يوم في السنة الدراسية.  تعلمنا الألمانية بامتياز،  وكانت درجاتنا معظمها النهائية آخر العام.  في العام التالي (السنة الثانية الثانوية) جلب لنا مديرنا القدير السيد/ محمود مرسى راشد رحمه الله من ألمانيا معلما يحمل الدكتوراه في اللغة الألمانية!   كان اسمه الدكتور "هانز بونته".   كان الدكتور "بونته" صديقا صارما قديرا وكان كأنه يقود فرقة أوركسترا مكونة من 32 عازفا.   لم ينطق بحرف انجليزي قط طوال السنة فضلا عن العربي.   لم يكن يعرف حرفا واحدا في العربية.   كنا نحصل منه على الدرجات النهائية بجدارة.   كنا ننطق الألمانية مثله تماما.  كان من حسن طالعي أن الألمانية عكس الفرنسية تماما!  فتنطق من الكلمة كل حرف فيها،  حتى حرف ال e في آخر الكلمة ينطق مثل الكسرة عندنا في العربية!   بل كانت قواعد الألمانية شديدة الشبه بالعربية.  فنهاية الكلمة قد تكون مكسورة أو منصوبة أو مفتوحة تبعا للفعل إن كان مضارعا أو ماضيا وهكذا.  زد على ذلك أنها لغة صارمة في النطق والتحدث. 


في اليوم الأخير للدكتور "هانز بونته" في نهاية السنة الثانية الثانوية وفى درسه الأخير لنا كتب لنا على السبورة بالطباشير بالألمانية
 "ايخش ليزيه آين بوخ"
وأنا أكتب الآن حرف خش  وهو ch  الذي ينطق بين الشين والخاء وكان بعضنا بارعين فيه بما فيهم العبد لله.   كتب لنا تلك الجملة الألمانية على السبورة وطلب منّا ترجمتها إلى العربية.  أوقف أول طالب في الصف قائلا له بالألمانية:
"ترجم هذه الجملة إلى العربية"
  فوجئنا جميعا بذلك الطلب وقلنا لبعضنا البعض في همس:  وما أدراه بالعربية، ولو ترجمناها إلى اللغة العربية هل سيفهم تلك الترجمة؟!
قام أولنا فقال:
 "أنا قرأت كتاب"
قال له الدكتور "هانز بونته" بالألمانية:
"داس إست فالش" يعنى: "هذا خطأ"
زادت دهشتنا ودخلنا في حيرة شديدة.  وأخذنا نهمهم لبعضنا البعض: "كيف يعرف الدكتور "بونته" أن الترجمة خطأ وهى صحيحة؟  انه بالتأكيد لا يعرف اللغة العربية".
همّ زميلنا أن يجلس فأمره الدكتور "بونته" بالاستمرار في الوقوف، ثم أوقف الزميل التالي الذي تحيّر هو كذلك كما تحيّرنا جميعا عندما طلب منه تصويب الترجمة!
قال الزميل بعد ضيق ونكد:
 "أنا أريت كتاب"!
ضحك "بونته" وقال:
 "داس إست فالش"
  بنطق الدال كحرف الضاد الخفيف في داس وبكسر الألف في إست، وتركه واقفا.
ثم أوقف الزميل الثالث وطلب منه الترجمة فقال في غير مبالاة
"أنا قرأت كتاب"
طلب منه الدكتور بونته أن يكتب الترجمة على السبورة.
ارتفعت الهمهمة فنظر إلينا "بونته" معاتبا فكتمنا النفس!
خرج الزميل المسكين وكتب على السبورة:
"أنا قرأت كتاب"
أمسك الدكتور هانز بونته إصبع الطباشير ووضع على الجملة العربية علامة X كبيرة قائلا:
"داس إست فالش"!!
ثم طلب من الرابع ثم الخامس حتى الأخير والكل يقول إما "أنا قرأت كتاب" أو "أنا أريت كتاب" فأوقف الفصل كله.
نظر إلينا "بونته" بابتسامة ساخرة بعد أن أشار إلينا بالجلوس وقال:
"أليس إست فالش"
يعنى "الكل خطأ"!!
ثم أمسك بإصبع الطباشير وأضاف حرف الألف إلى كلمة كتاب ثم رسم فتحتان على الألف قائلا باللغة العربية الفصحى:
"أنا قرأت كتابا"!
ثم أردف: "كتاب مفعول به منصوبٌٌ بالفتحة"!!!
وكان ذلك بلسان عربي فصيح !!!!!

عندها طأطأنا رءوسنا، ولم نعرف أين نوجه نظرنا ولا أين نخفى أنفسنا، وتحاشينا النظر إلى عيني الدكتور "بونته" بالنظرات الزائغة في كتبنا.  كان وكأن كل الفصل قد بال في سراويله، اعترانا وجوم وصمت مطبق وبكى أكثرنا أو كلنا.
كنا فصلا متميزا وخطيرا.  إن كل طلاب ذلك الفصل الآن هم أساتذة في الجامعات المختلفة كل في تخصصه ومجاله.
إن إخفاقنا في الترجمة الصحيحة إلى العربية غطى على ذهولنا من إلمامه الرائع باللغة العربية
لقد أخجلنا أن كشف ذلك الأستاذ الألماني استهتارنا بلغتنا العربية.
لم نكن جهلاء في اللغة بل كنا بارعين.
ولكننا استهترنا واستخففنا لغتنا ولم نعتن بسلامتها ظنا منا أنه يجهلها.
كان ذلك لنا درسا قاسيا للغاية.  فلقد كنا مرهفي الإحساس، وكنا رجالا مسئولين ومحترمين في ذلك الوقت وفى تلك السن.
ما الذي كنا سوف نخسره لو ترجمنا له الجملة بلغتنا العربية
 السليمة؟ كيف يمكننا مواجهته، وبأي وجه نستطيع توديعه في ذلك اليوم،  وهو الذي استطاع أن يجعل كلّ منا يتكلم بلسان ألماني فصيح ؟
لم نكن نقع في أخطاء في نطق أو قواعد اللغة الألمانية، وكان يفخر بنا عند مدير المدرسة العظيم.  كيف سنواجه السيد مدير المدرسة لو قال له "بونته" أن الطلاب المحترمين في فصل الألماني أخفقوا في قواعد اللغة العربية؟
لغتهم !!!

سادنا الوجوم واعترانا الخجل من الفضيحة، ولم يخرجنا من تلك المشاعر (التي عاشت معنا إلى اليوم أو قل على الأقل عاشت معي أنا حتى الآن) إلا تخفيفه للوقع الأليم لذلك الموقف،  فقد قال باللغة العربية الفصحى:
"لا تحزنوا ، فأنا أعرف أنكم طلاب متفوقون وتعرفون لغتكم جيدا، ولكنكم شككتم في معرفتي باللغة العربية فلم تعيروا للترجمة اهتمامكم، ولكن ذلك أيضا كان منكم خطأ ، "فالش"!!!

ازداد حزننا فقد أفهمنا أنه أحسّ بأننا لم نعره هو اهتمامنا.  وقد كان يعاملنا معاملة الرجال ومعاملة المتفوقين طوال العام، وكنّا نتبادل معه الإعجاب.  فقد كان يتفانى في تعليمنا وكنا نتفانى في التجاوب معه.

قطع علينا "الدكتور بونته" استرسالنا في هواجسنا مرة أخرى،  فقد بدأ يقص علينا مؤهلاته وتاريخه العسكري في الحرب العالمية الثانية وقد كان في الجبهة الروسية.  كلمنا عن ويلات الحرب وخسائر ألمانيا البشرية وأطلعنا على إصاباته في رقبته وصدره.  وكيف أنه يحمل الدكتوراه في اللغة الألمانية والدكتوراه في اللغة العربية والدكتوراه في اللغة الفارسية!!!   كل ذلك في جمل بعضها ألمانية وبعضها عربية فصحى لم أسمعها من أغلب خريجي الأزهر في الأعوام الثلاثين الماضية.

أعتقد أنكم نظرتم لنوعية الأستاذ الذي جلبه لنا مدير المدرسة العباسية في زمن الجمال، ولا أقول في الزمن الجميل.
  فكل الزمن جميل ولكن،
 سكان الزمن هم الذين يوصمون أنفسهم بالجمال أو يوصمون أنفسهم بالقبح.
إن سكان الزمن إما أن يكونوا طيبين أو يكونوا شريرين.
إن سكان الزمن إما أن يكونوا أمناء أو يكونوا لصوصا.
إن سكان الزمن إما أن يكونوا صادقين أو يكونوا كذابين.
إن سكان الزمن إما أن يكونوا جاهلين أو يكونوا محترمين.
إن سكان الزمن إما أن يكونوا نظيفين أو يكونوا قذرين.
إن سكان الزمن اما أن يكونوا عادلين أو يكونوا ظالمين.
إن سكان الزمن إما أن يكونوا مؤمنين أو يكونوا  فاسقين.

يمكنكم أن تعقدوا مقارنة بين عام 1957 وما كان يجلبه لنا كبرائنا ومسئولونا وما يجلبه لنا كبرائنا ومغتصبونا ومزورونا اليوم من كلّ مما يجول بخاطركم.
 أنهم لا يجلبون إلا العار والشنار.
يا لهم من سكان لهذا الزمن.


منذ ما يقرب من عامين دخلت أنا وصديق لي أحد المساجد لصلاة العشاء،  وقبل الصلاة لفت نظري لوحة كبيرة منسوخة تحمل عنوان ضخم يقول "عاوز تنجح ؟" وتحت العنوان ما يقرب من خمسة عشرة نصيحة للنجاح.  هالني العنوان الضخم وغاظني وأثار حفيظتي.  فالعنوان الضخم بلغة عامية لا تليق بالمسجد أبدا.  والتفصيلات باللغة العربية السليمة.  فلماذا لا تكون اللوحة كلها باللغة العربية؟ على الأقل لغة الكتابة.  فنحن لسنا بصدد الإعلان عن فيلم سينمائي أو إعلان تلفازي عن مواد تجميل.  وهل نحن نقنع من رواد المسجد من التلاميذ والطلاب بمختلف مراحلهم الدراسية بمجرد النجاح فقط أم ندعوهم للتفوق ؟!  من شدة غيظي أخرجت قلمي وكتبت على اللوحة:
 "هذه اللغة الدارجة لا تليق بمقام المسجد.  فكان يجب أن تكتب بدلا منها: "أتريد النجاح؟ أو هل تريد النجاح والتفوق ؟ أو هل تريد أن تنجح ؟".  وكتبت اسمي كاملا ووظيفتي ومكان عملي.
أقيمت الصلاة وصلى بنا شاب لطيف ندىّ الصوت حسن القراءة.
بعد أن فرغنا من الصلاة سألت عن المسئول عن المسجد فقالوا أنه غير موجود وأنّ ذلك الإمام الشاب يمكن أن يفيدني في أي طلب يخص المسجد.  استدعيت الشاب الإمام برفق، فقد كنت أصلى جالسا على أريكة خلفية، وسلمت عليه وحيّيّته على تلاوته للقرآن الكريم بصوت جميل وتلاوة صحيحة،  ثم سألته عن عمله فقال أنه طالب في كلية التجارة بالسنة الثالثة.  ثم سألته عن اللوحة ومن أنجزها فقال انه هو،  فشرحت له كيف كان يجب الحفاظ والتمسك باللغة العربية لغة القرآن الكريم في المساجد على الأقل في الكتابة،  وأننا ينبغي أن نعلم الطلاب في مختلف مراحلهم اللغة العربية واحترامها وحبها، وأننا لا يجب أن نقنع بمجرد النجاح.  كل ذلك وهو يستمع ويحرك رأسه علامة الإيجاب.  ثم قلت له أنه ينبغي أن يغيّر اللوحة ويصوغها بالعربية الفصحى وبخاصة أنني كتبت عليها كذا وكذا.  هنا أخذته العزة وقال بعصبية: "نصيحة بفضيحة ؟".  ثم أمر شاب آخر بنزع اللوحة التي عليها ملاحظتي، وأحضر لوحة من نسخة أخرى منها  في الحال وعلقها بدلا منها.  لقد اعتبر ذلك الشاب ملاحظتي التثقيفية التعليمية التوجيهية الصارمة فضيحة، ولم يستح من كتابة اللوحة بلغة دارجة هزيلة ركيكة في بيت الله فضيحة !!  وهو يعرف أنه لو كان طالبا عندي وحدثته في ذلك الأمر لارتعدت فرائصه.


كان لدينا في مصر برنامج اسمه "لغتنا الجميلة" في الإذاعة القومية المصرية (البرنامج العام).  لا أعرف إن كان  هذا البرنامج مستمرا حتى الآن من عدمه، فأنا لا استمع إلا إلى إذاعة القرآن الكريم منذ سنوات طويلة.  لا أعرف إن كانوا قد أوقفوا ذلك البرنامج إرضاء لإخوانهم في إطار عمليات التركيع الذي يسمى بالتطبيع.  حتى نشرات الأخبار لا أعرف كيف تقرأ في إذاعة البرنامج العام.  ولكنني أحيانا وبطريق غير مقصود أصطدم بنشرة أخبار تلفازيه فأسمعهم وأراهم يقرءونها باللغة العامية،  وبين كل خبر وآخر يتفرّس المذيع والمذيعة في وجوه بعضهم البعض دون أن يستحوا من ملايين العيون التي تشاهدهم.   من أين أتوْا بتلك السلوكيات؟  ولماذا تلك السلوكيات ؟  ولماذا تكون نشرة الأخبار بواسطة ذكر وأنثى معا ؟  ولماذا لاينفرد رجل أو تنفرد سيدة بنشرة الأخبار؟  وهل نشرة الأخبار ثقيلة ومرهقة لهذه الدرجة بحيث تحتاج إلى شخصين؟  وان كان الأمر كذلك فلماذا لا يكونا ذكرين أو أنثيين؟  هل لا بد من التذكير بالغرائز حتى خلال نشرة الأخبار التلفازية وغيرها من البرامج؟  ويتساءل بعض الأساتذة ممن يحملون على الإسلام في جامعاتنا في المدرّجات حتى مع طلاب وطالبات السنة الأولى الجامعية:
 "لماذا التفرقة بين الطلبة والطالبات ؟  ولماذا ترتدي النساء الحجاب ؟  ولماذا ينظر الإسلام إلى المرأة نظرة جنسية ؟"  أبالحجاب ينظر الإسلام إلى المرأة نظرة جنسيه ؟
فبماذا إذن تسمى النظرة في الأغاني والحفلات التلفازية الماجنة و"الكليبات" العارية والإعلانات الهابطة المليئة بالإيحاءات الجنسية؟ وغيرها وغيرها حتى في نشرات الأخبار؟

إنّ اللغة الهابطة لم تترك الصحف والمجلات والإعلانات وحتى الملصقات وحتى الدعايات التي تكتبها إدارات المدارس على جدران مدارسها.  إن اللغة الفاحشة هي ديدن الحوارات البذيئة في الأفلام والمسلسلات.  حتى أصبحت العبارات وتعبيرات البلطجيين والمجرمين والمدمنين والقوادين وتجار المخدرات من لوازم فروسية أبطال الأفلام والمسلسلات وبطلاتها،  فضلا عن الإيحاءات الجنسية.  ولن أتكلم عن السلوكيات الجنسية.


وإذا ابتكروا برنامجا لغويا أو برنامجا دينيا أو مسلسلا دينيا يعرضون الكلام والمتكلمين عرضا بطيئا (سلو موشان!)،  ويلوك الرجل كلامه باللغة العربية في فمه قبل أن تخرج منه!  ويدفعك ذلك المتحدث دفعا إلى التثاؤب وتتثاقل أجفانك وتدخل في سبات عميق !!
هل اللغة العربية لغة التماوت والاحتضار؟  هل إذا لم يتثاقل لسانك وتتغالق جفونك وتتمسكن لن تعتبر شخصا مسلما متدينا؟!  هل كل من يتحدث العربية الفصحى يجب أن يكون مريضا بالأنيميا المصحوبة بمرض النوم؟  هل كل من يتحدُُث العربية يجب أن يكون تحت التخدير؟  يا لسوء حظك بأبنائك أيتها اللغة العربية.
إن اللغة العربية لغة حيّة، والذين يتحدثونها يجب أن يكونوا أحياء.  ليسوا أحياء بمعنى الصخب ورفع الصوت، حتى قيل أن العرب ظاهرة صوتية.  كلا إطلاقا، لماذا نتباطأ عندما نتحدث في الدين وعندما نتحدث باللغة الفصحى ثم نكون أيقاظا ومحصحصين ونتحدث في أفلامنا بسرعة الصاروخ بالبذاءات والوساخات ؟
اننى لا أتحدث في مدرجات الجامعة إلا بالعربية الفصحى بقدر الإمكان.  وأقول لتلاميذي دائما أن المسلم إذا تحدث أسمع وإذا ضرب أوجع.  إنّ المسلم عندما يتحدث بالعربية لا ينبغي أن يكون في حالة احتضاركما لو كان يتحدث من تحت الأنقاض.
 إننا يكفينا أننا نقرأ القرآن.

إن الأكثرية الساحقة لايعرفون كيف يكتبون اللغة العربية.  فعلى سبيل المثال يكتب الكثيرون "لاكن" بدلا من "لكن"، ويكتبون "جزاكى الله خيرا" بدلا من "جزاك الله خيرا" بكسر الكاف عند مخاطبة الإناث.  إن ذلك للأسف يكون حتى بين المتدينين والمتدينات.  يحزنني أن يكتب أولادنا وبناتنا رسائلهم الالكترونية باللهجة العامية حتى أن بعض الإخوة طلبوا ترجمة الرسائل من اللهجات العامية المحلية إلى اللغة العربية حتى يفهمونها!!  حتى في العامية لماذا يكتبون فى بعض الدول العربية "يبّى" بدلا من "يبغى" ؟؟

إن أجيالا في كل أنحاء العالم العربي نشأت في ظل اهتراء اللغة العربية، حتى أنهم لا يعرفون كتابة جملة كاملة مفيدة أو حتى التعبير عن أنفسهم كتابة، ولو حتى بالعامية.  إنّ منهم من وصلوا إلى أعلى المراتب في الدرجات العلمية حتى الأستاذية.  إنّ قطاعا كبيرا من الخريجين في الجامعات يتحدثون جيدا باللغات الأجنبية ولا يستطيعون التعبير ولا حتى الفهم باللغة العربية الفصحى!!
يأتينا كثير من خريجي مدارس اللغات الأجنبية في الثانوية العامة للدراسة في الجامعة ويعجزون عن فهم المحاضرات باللغة العربية!  ويكاد أن يطير بهم ذووهم من الفخر والفرح!!!
يا لخيبة أملك في أبنائك أيتها اللغة العربية.  اننى لا أقول قولا أو أعتنق مبدأ وأفعل ما يخالفه.  عندما كنت ألحق أولادي بالمدارس كانت أمهم تقترح علىّ وترغب في إدخالهم مدارس لغات.  رفضت رفضا قاطعا زاجرا.  أدخلتهم المدارس العربية المعتادة وواليتهم بالفصحى منذ العام الثاني من ولادتهم.  هاهم بفضل الله تبارك وتعالى أطباء متميزون وحفظة للقرآن الكريم ويجيدون العربية الفصحى والانجليزية ويجيدون مهنتهم كل الإجادة.


إن من المضحكات المبكيات المبليات أن يجيد رئيس دولة عربية التحدث بالانجليزية ويعجز عن التعبير باللغة العربية التي هو المسئول الأول عن الحفاظ عليها ونشرها وتعليمها وصونها وتنميتها لدى الرعية.  أذكر أن أحد رؤساء مصر الذين تداولوا السلطة ديموقراطيا في الثلاثة عقود السابقة (المخلوع!) كان يخطب يوما في عيد "العمال" وكان يقرأ ما كان مكتوبا له، وكان من عادته أن يخرج بين الفينة والفينة عن النص ليقول "قفشة" أو مزحة أو غيره.   فخرج في ذلك الخطاب عن النص وتعثّر في كلمة، فلم تسعفه لغته العربية ولكن أنقذته ثقافته العالية جدا وغزارة اطّلاعه فقال: "آ آ آ ايلابوريشن"، فصفق له "العمال"!

وأذكر أحد رؤساء مجلس الشعب الذين تداولوا رئاسة مجلس الشعب للعشرين سنة الماضية كان وزيرا للتعليم، وكان قد ألغى السنة السادسة الابتدائية وأربك المدارس والمدرسين والتلاميذ والآباء والأمهات وجميع أجهزة الدولة حتى الآن، وأعيدت السنة السادسة الابتدائية بعد سنوات من تركه لوزارة التعليم فأربكت أيضا جميع أجهزة الدولة والثانوية العامة والجامعات وسببت ما يسمى "بسنة الفراغ"(فتحي سرور)، كل ذلك وهو حيّ يرزق "ومن وسع"، ويتبوأ أعلى مكان ومكانة نيابية تشريعية دون أن يطرأ على ذهنه أو قلبه هاجس الاستقالة، وكان  رحمنا الله منه أستاذا مرموقا وفقيها في القانون ومحاميا مفوّها بارعا في المحاكم، وكان يسنّ ويفصّل ويطرّز القوانين في مجلس الشعب ويجعلها حادة قاطعة فاصلة ماضية نافذة باترة ،  كان ذلك الفحل القانوني يقول في مجلس الشعب "سلاسة نواب" بدلا من "ثلاثة نواب"!!  والفرق تعرفونه جيدا!

كنت معجبا برئيسة وزراء بريطانيا "مارجريت تاتشر" - برغم كراهيتي للبريطانيين منذ حقبة الاستعمار العسكري- لأسلوبها في الخطابة.  وبغض النظر عن كونها سيدة فهذا شأنهم وهى والملكة كانتا تملكانهم، إلا أن صوتها في خطبها كان ذو نبرة رجولية، وكانت مخارج حروف كلماتها واضحة وكانت فصيحة في انجليزيتها، تحترم لغتها وكانت صارمة وكأنها قائد عسكري.  وهى بالفعل انتزعت جزيرة "فوكلاند" بالقتال من الأرجنتين.  لم نسمعها مرة "انزنقت" في كلمة عربية وانزلقت وقالتها لرعيتها.  لم نسمع عن رئيس أمريكي عجز عن التعبير في خطاب فأفلتت منه كلمة عربية.  إلا حينما يخاطب البلهاء من أمثالنا فيلقى خطابه بلغته ولكنه يستهله بالسلام "سلام أليكم"،  فيلحس به عقولنا ويسرق به أفئدتنا الخاوية.  وينظر بعضنا إلى بعض في عجب وتعجّب وإعجاب "يا سلام هل سمعته؟ انه قال سلام أليكم "؟   ثم يدس لنا ذلك الخواجة السم الزعاف بعد "سلام أليكم" تلك!

إن العار كل العار أن يستحى صاحب اللغة العربية من عدم إخراج لسانه عند نطق حرفي th بالانجليزية،  بينما يستحى في الوقت نفسه من  إخراج لسانه عند نطق الثاء والذال عند الكلام باللغة العربية.  ذلك لأن معلم الانجليزية يعنّفه ويفضحه ويجعله يشعر بالعجز والخجل إن لم يخرج لسانه في نطق ال  th، بينما معلم اللغة العربية لا يدقق معه إذا لم يخرج لسانه عند نطق الثاء والذال في العربية.  بل إنّ معلم اللغة العربية هو نفسه لا يهتم بذلك عندما يتحدث إلى تلاميذه والى غير تلاميذه، بل وفى أغلب الأمر يستحى من إخراج لسانه في الثاء والذال!!!  بل أنّ الكثيرين من رجال اللغة العربية يتندّرون باللغة العربية.   بل أن الكثيرين يسخرون من رجال اللغة العربية وينظرون إليهم نظرة دونية في الوقت الذي يخرّون فيه احتراما وتبجيلا وفخرا وإعجابا برجال اللغة الانجليزية وغيرها.
  أنا لا أنتقص من شأن أي مهنة ولا من شأن أي تخصص ولا من شأن أي لغة.
  إنما نحن نحتاج إلى البراعة في كل مهنة وفى كل تخصص وفى كل لغة وفى كل شيء،  ولكنّ لغتنا العربية قبل كل لغة
وفوق كل لغة.
  إن شعبا يهزأ من لغته ويستهين بها، ماذا تنتظر منه؟
  وما هو مستقبله؟
 وما هو مكانه وما هى مكانته بين الشعوب والأمم؟؟؟

إن لغتنا العربية هي عارنا
إن لغتنا العربية هي شرفنا
إن لغتنا العربية هي حرمنا
لقد انتهك شرفنا
وانتهك  حرمنا
ومن الذي انتهكه ؟
انه نحن!

اننى أعتبر أنّ من يفرّط في اللغة العربية ديّوث
انه يفرّط في عرضه ولا يغار عليه
إنهم يتكلمون بكل لسان أعجمي
ولا يستطيعون قراءة آية واحدة
ولا جملة واحدة
ولا كلمة واحدة
بطريقة صحيحة
من القرآن الكريم
إنهم يتكلمون بكل طلاقة بلغات أعجمية
وتلتوي ألسنتهم ويصيبها الخدل والعرج
عندما يضّطرون إلى إلقاء كلمة باللغة العربية
ملوكا وأمراء ورؤساء ومثقفون وعلماء وأفرادا

إنّ من يفرّط في لغة القرآن
كمن أنجب بنتا
وتركها تهيم في الشوارع والبلاد
لا يعرف
ولا يهمه أن يعرف ولا يريد أن يعرف
ماذا يفعل بها

لن أقول إنها لغة القرآن
ولن أقول إنها لغة حسابنا أمام الله
ولن أقول إنها لغة أهل الجنة
فهذا ما لا يخفى على أي مسلم

فقط سأرثى تلك اللغة بما رثاها به شاعرنا العظيم
حافظ إبراهيم
الذي آلمه حال لغتنا العربية
منذ نحو قرن مضى من الزمان:

رَجَعْتُ لنفسي فاتَّهَمْتُ حَصَاتي . . وناديتُ قَوْمـي فاحْتَسَبْـتُ حَيَاتـي
رَمَوْني بعُقْمٍ في الشَّبَابِ وليتني . . عَقُمْتُ فلـم أَجْـزَعْ لقَـوْلِ عُدَاتـي
وَلَــدْتُ ولـمّـا لــم أَجِــدْ لعَـرَائـسـي . . رِجَـــالاً وَأَكْـفَــاءً وَأَدْتُ بَـنَـاتـي
وَسِعْـتُ كِتَـابَ الله لَفْظَـاً وغَايَـةً . . وَمَـا ضِقْـتُ عَــنْ آيٍ بــهِ وَعِـظِـاتِ
فكيـفَ أَضِيـقُ اليـومَ عَـنْ وَصْـفِ . . آلَـةٍ وتنسيـقِ أَسْـمَـاءٍ لمُخْتَـرَعَـاتِ
أنا البحرُ في أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ  . . فَهَلْ سَأَلُـوا الغَـوَّاصَ عَـنْ صَدَفَاتـي
فيا وَيْحَكُمْ أَبْلَـى وَتَبْلَـى مَحَاسِنـي . . وَمِنْكُـم وَإِنْ عَـزَّ الـدَّوَاءُ أُسَاتـي
فــلا تَكِلُـونـي للـزَّمَـانِ فإنَّـنـي . . أَخَــافُ عَلَيْـكُـمْ أنْ تَـحِـيـنَ وَفَـاتــي
أَرَى لـرِجَـالِ الـغَـرْبِ عِــزَّاً وَمِنْـعَـةً . . وَكَــمْ عَـــزَّ أَقْـــوَامٌ بـعِــزِّ لُـغَــاتِ
أَتَــوا أَهْلَـهُـمْ بالمُـعْـجـزَاتِ تَفَـنُّـنَـاً  . . فَـيَــا لَيْـتَـكُـمْ تَـأْتُــونَ بالكَـلِـمَـاتِ
أَيُطْرِبُكُمْ مِنْ جَانِـبِ الغَـرْبِ نَاعِـبٌ . . يُنَـادِي بـوَأْدِي فـي رَبيـعِ حَيَاتـي
وَلَـوْ تَزْجُـرُونَ الطَّيْـرَ يَوْمَـاً عَلِمْتُـمُ . . بـمَـا تَحْـتَـهُ مِــنْ عَـثْـرَةٍ وَشَـتَـاتِ
سَقَـى اللهُ فـي بَطْـنِ الجَزِيـرَةِ أَعْظُمَـاً . . يَعِـزُّ عَلَيْهَـا أَنْ تَلِيـنَ قَنَـاتـي
حَفِظْـنَ وَدَادِي فـي البلَـى وَحَفِظْتُـهُ . . لَهُـنَّ بقَلْـبٍ دَائِــمِ الحَـسَـرَاتِ
وَفَاخَرْتُ أَهْلَ الغَرْبِ ، وَالشَّرْقُ مُطْرِقٌ . . حَيَـاءً بتلـكَ الأَعْظُـمِ النَّخِـرَاتِ
أَرَى كُــلَّ يَــوْمٍ بالجَـرَائِـدِ مَزْلَـقَـاً . . مِــنَ القَـبْـرِ يُدْنـيـنـي بـغَـيْـرِ أَنَـــاةِ
وَأَسْمَـعُ للكُتّـابِ فــي مِـصْـرَ ضَـجَّـةً  . . فَأَعْـلَـمُ أنَّ الصَّائِحِـيـنَ نُعَـاتـي
أَيَهْجُـرُنـي قَـوْمـي عَـفَـا اللهُ عَنْـهُـمُ . . إِلَــى لُـغَـةٍ لــم تَتَّـصِـلْ بـــرُوَاةِ
سَرَتْ لُوثَةُ الإفْرَنْجِ فِيهَا كَمَا سَرَى . . لُعَابُ الأَفَاعِي في مَسِيلِ فُـرَاتِ
فَجَـاءَتْ كَـثَـوْبٍ ضَــمَّ سَبْعِـيـنَ رُقْـعَـةً  . . مُشَكَّـلَـةَ الأَلْــوَانِ مُخْتَلِـفَـاتِ
إِلَى مَعْشَرِ الكُتّابِ وَالجَمْعُ حَافِلٌ . . بَسَطْتُ رَجَائي بَعْدَ بَسْطِ شَكَاتي
فإمَّا حَيَاةٌ تَبْعَثُ المَيْتَ في البلَى . . وَتُنْبـتُ فـي تِلْـكَ الرُّمُـوسِ رُفَاتـي
وَإِمَّـا مَـمَـاتٌ لا قِيَـامَـةَ بَـعْـدَهُ . . مَـمَـاتٌ لَعَـمْـرِي لَــمْ يُـقَـسْ بمَـمَـاتِ


إنّ هذه اللغة العظيمة

 لا تطلب منّا مالا ولا جاه
لا تطلب منا دينارا ولا دولارا
لا تطلب منا ذهبا ولا فضة
إنها لا تطلب منا أن نكون أربعمائة مليون نسخة من
امرؤ القيس، ولا عنترة بن شدّاد، ولا المتنبي، ولا البحتري
إنها لا تريد إلا الحد الأدنى من الرعاية
حتى تظل على قيد الحياة
إنها لا تريد الإساءة فحسب
إنها لا تريد السفالة فحسب
إنها لا تريد الإسفاف فحسب
إنها لا تريد البذاءة فحسب
إنها تريد أن تعيش بيننا بكرامتها التي كرّمها ربها بها  
إنها لا تريد إلا الحد الأدنى من الاحترام
إنها لن تتحمّل مزيدا من الإيذاء
إنها أوشكت أن تهجرنا، كما هجرناها، وترحل عنّا
ترحل عنّا وتتركنا مسوخا، بلا ملامح ولا هوية
إنها تتباعد عنا كما تباعدنا عنها

اننى أنادى عليها مرتاعا ملتاعا دامع العين كسير الفؤاد وأقول:

أيتها الجميلة الرائعة ..
الى أين ؟
الى أين أيتها الغالية ؟

محمد هاشم عبد الباري
18 نوفمبر 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق