بسم الله الرحمن الرحيم
الله.. ثم الطبيعة والحرب والنفس والنصر
الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى
^^^^^^^
الجزء الثانى
غزوة الأحزاب (الخندق)
أيقن أعداء الإسلام أنهم لن يستطيعوا الانتصار علي المسلمين إذا حاربوهم كطوائف معادية فرادى. لقد رأوْا إنهم ربما يبلغون أملهم إذا اتحدوا في مواجة المسلمين. كان زعماء اليهود في جزيرة العرب أكثر ادراكا من غيرهم بذلك. أجمعوا أمرهم علي تأليب قبائل العرب ضد الإسلام وحشدهم في جيش كبير يحارب رسول الله وأصحابه معركة حاسمة. كان ذلك حلقة فى سلسلة المؤامرات التي لم يدّخر اليهود جهداً إلا وبذلوه في سبيل هدفهم الثابت حتى يومنا هذا. التحريض على القضاء عل الاسلام وعلى كراهية الاسلام وشريعته حتى بين أبناء المسلمين وزعمائهم ومثقفيهم ونخبهم.
خرج نفر من هؤلاء اليهود الى ديار غطفان وهي قبيلة محاربة خطيرة في الجزيرة العربية تبعد 120 كيلومترا شمال غرب المدينة. دعوْهم إلى حرب الرسول صلى الله عليه وسلم. طافوا في القبائل الأخرى لضمّهم الى التحالف المشترك لغزو المدينة وموافقة قريش عليه. أجابوهم إلى ذلك. هكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر علي الإسلام والمسلمين. بلغ مجموع مقاتلى الأحزاب عشرة آلاف. أسندت قيادة قوات الأحزاب إلى أبي سفيان بن حرب. بدأ التأهب للزحف علي المدينة.
كان ذلك في شوال سنة خمس من الهجرة. سمع الرسول الكريم بزحفهم إلى المدينة فاستشار أصحابه فى الأمر. استقر الرأي علي البقاء بالمدينة والتحصّن بها لخطورة الالتحام مع تلك الجيوش الضخمة في ساحة مكشوفة. لم يكن جيش المسلمين ليزيد علي ثلاثة آلاف مقاتل.
أشار سلمان الفارسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب خندق علي المدينة. لقد كانت خطة عسكرية متبعة عند الفرس. نزل رسول الله على رأيه فأمر بحفر الخندق في سهل شمالى غرب المدينة. انه الجانب المكشوف الذي يخشى منه اقتحام العدو. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت. قسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حفر الخندق بين أصحابه. لكل عشرة منهم أربعين ذراعاً.
شارك رسول الله المسلمين في حفر الخندق ترغيبا لهم في الأجر. انه خير قائد وخير قدوة. صلى الله عليه وسلم. أخذ نفر من رجال المنافقين يتسللون إلى أهاليهم بغير علم رسول الله ولا إذنه. فيهم نزل قول الله تعالى:
"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ" إلى قوله تعالى: "وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"
(سورة النور: آية 62)
كان طول الخندق الذى حفره النبى وأصحابه 5و4 كيلومترا بعمق 5 أمتار وعرض 6 أمتار. الخندق الذى حفره رسول الله وأصحابه كان أول مانع اصطناعى فى تاريخ الحروب الاسلامية. كان من تدبير سلمان الفارسى رضى الله عنه وأرضاه.
كان البرد شديداً. لم يجدوا من القوت ما يكفى لسد الرمق. وقد لا يجدون القوت مطلقا. كان المسلم يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع. كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يربط حجران.
شهد المسلمون المعجزات التى أجراها الله تبارك وتعالى على يد رسوله الكريم فى حفر الخندق. أعاقت المسلمين في جزء من الخندق صخرة عظيمة شديدة الصلابة لا تأخذ فيها المعاول. شكوْا ذلك اليه صلى الله عليه وسلم. لما رآها أخذ المعول وقال
"بسم الله"
وضرب ضربه فانكسر ثلثها فقال:
"الله اكبر أعطيت مفاتيح الشام"
فانكسر ثلثاً آخر فقال:
"الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض"
ثم ضرب الثالثة وقال:
"بسم الله"
فقطع بقية الحجر فقال:
"الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله أني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة"
أنجز حفر الخندق في ستة أيام، وقيل قريبا من عشرين ليلة، وقيل أربعا وعشرين. كان طول الخندق الذى حفره النبى وأصحابه 5و4 كيلومترا. كان عمقه 5 أمتار (عمق طابقين من المبانى الحديثة) وكان عرضه 6 أمتار!
أقبلت جيوش الأحزاب حتى نزلت أمام المدينة في عشرة آلاف. كان جيش المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف فقط. كان بينهم وبين القوم الخندق. أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالأطفال والنساء فجعلوا في الحصون البعيدة ليكونوا بمأمن إذا استباح العدو المدينة. رابط المسلمون علي جانب الخندق.
انسابت وحدات الأحزاب المقاتلة حول المدينة في أعدادها الهائلة. ضربوا على المدينة الحصار. لم يتسرب الخوف إلى قلوب المؤمنين. لقد واجهوا تلك الجيوش الكبيرة بقوة العقيدة وثبات وثقة المؤمن بتأييد الله ونصره. لقد اطلع الله على قلوبهم وأنزل فيهم الآيات
"وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا"
(سورة الأحزاب: آية 22)
كانت قوات المسلمين الى قوات المشركين فى غزوة الخندق 3:1 ولكن انتصر المسلمون بمعية الله مستعينين بجهاز مخابرات قوى وعنصر المفاجأة بحفر خندق لم يعهده العرب من قبل وأيّدهم الله بقوى الطبيعة سخرها لهم.
فوجئت حشود المشركين المهاجمة بالخندق. أخذتهم الدهشة والذهول. داخلهم الاضطراب. انهم لا يعرفون القتال أمام تلك الموانع. انهم لا يستطيعون عبور خندقا عميقا عرضه ستة أمتار لا رجالا ولا ركبانا. انهم لم يكونوا يتوقعون مثل ذلك النوع من الدفاعات. انهم لم يواجهوه من قبل ولم يألفوه. رضى الله عنك يا سلمان الفارسى. سلمان منا أهل البيت.
أخذ المشركون يجولون حول المدينة وقد بلغ الغضب منهم كل مبلغ. يتلمسون نقطة ضعف أو ثغرة يتدفقوا منها عسي أن ينالوا من المسلمين ما يستطيعون. أدرك المسلمون ما يحدق بهم وراء هذا الحصار. قرر قناصة المسلمين أن يرابطوا في أماكنهم يقنصون بالنبل كل من يقترب من المشركين.
استطلعت وحدة استطلاع فرسان قريش حول الخندق. اكتشفوا مكانا ضيقا من الخندق. ضربوا خيلهم فعبرت منه. جالوا بها في أرض المدينة. منهم الفارس المشهور عمرو بن عبد ود. كان يقوّم بألف فارس. برز للمسلمين متحديا واضعاً علامة يعرف بها وتميزه. برز اليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تبارزا وتجاولا. قتله علىّ كرّم الله وجهه.
كان بين المسلمين وبين يهود بني قريظة عقد وعهد. لم يكن مثل اتفاقية كامب ديفيد. لكن المخابرات الاسلامية – التى لا تغريها ولا تغويها ولا تسكرها ولاتسقطها غانيات مخابرات العدو - حملت الى النبى فى تلك اللحظات الحرجة تقريرا بأن يهود بني قريظة نقضوا معاهدتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانضموا إلى كتائب الأحزاب التي تضرب حول المدينة. لم يكن على رأس مخابرات رسول الله عملاء للعدو. تأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مخابراته العسكرية من غدر اليهود. قال عليه الصلاة والسلام:
"الله أكبر ابشروا يا معشر المسلمين".
اشتد الحصار وتزايدت الأعداء وتكالبت وتحزّبت. عظم بلاء المقاتلين المسلمين واشتد الخوف. صوره القران الكريم في قول الله تعالى
"إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا"
(سورة الأحزاب، الآيات 10-11).
ازداد الأمر خطرا بقلق الرسول من زعيم المنافقين الانتهازى عبد الله بن أبىْ. كان من أصحاب السوابق. انسحب من قبل فى يوم غزوة أحد بثلث الناس من صفوف المسلمين. لقد ظهرت بوادر النفاق من بعضهم حتى أنّ أحدهم قال: كان محمد يعدنا بكنوز كسري وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن علي نفسه أن يذهب إلى الغائط. ما أكثر المنافقين بيننا اليوم وما أكثر الخائنين وما أكثر الخائبين وما أكثر النخب وما أشبه اليوم بالبارحة!
خشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين فهمّ بعقد صلح بينه وبين غطفان علي أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة. عدل الرسول عن ذلك بعد استشارة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة. قالا له: يا رسول الله أمرا نحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لابد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا؟ قال
"بل شئ اصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم (غالبوكم) من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما".
أحاط المشركون بالمسلمين فحاصروهم قريبا من شهر. اشتد البلاء. استأذن بعض المنافقين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة زاعمين بأنّ بيوتهم عورة (غير محروسة وغير آمنة). أنزل الله فيهم:
(إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا)
(سورة الأحزاب، آية 13)
جاء المسلمون إلى رسول الله يسألون هل من شئ يقولوه فقد بلغت القلوب الخناجر؟ قال:
"نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا"
دعا رسول الله علي الأحزاب فقال:
"اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم".
جاء انعيم بن مسعود الغطفاني رسول الله وهو فى ذروة شدته هو وأصحابة. قال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت !!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا إن استطعت فإنّ الحرب خدعة".
(أى أحمل أحزاب الشرك والكفر على خذلان بعضهم البعض وثبطهم عن نصرة بعضهم البعض).
خرج نعيم بن مسعود الى يهود بني قريظة. كان صديقهم في الجاهلية. قال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إيّاكم وخاصة ما بيني وبينكم. قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم. تكلم معهم بكلام جعلهم يشكّون في صحة موقفهم وتأييدهم لقريش وغطفان الذين ليسوا من أهل البلد وعدائهم للمهاجرين والأنصار الذين هم أهل الدار وجيرانهم الدائمين. أشار عليهم ألا يشتركوا مع الأحزاب في حرب ضد محمد حتى يأخذوا من الأحزاب رهناً من أشرافهم يبقونه في أيديهم خشية أن تنسحب الأحزاب ويتركوهم وحدهم. قالوا له لقد أشرت بالرأي. ثم خرج حتى أتي قريشاً. أظهر لهم مودته واخلاصه. أخبرهم بأن اليهود قد ندموا علي ما كان منهم من نقض عهد محمد. وأنهم سيطلبون من قريش رجالا من أشرافهم يدفعونهم إليه ليقتلهم. ثم خرج إلى غطفان وقال لهم مثل ما قال لقريش. اختفي نعيم بن مسعود من الميدان. أخذ يتابع نتائج وتداعيات تلك الوقيعة. أصبح كل فريق منهم علي حذر من الآخر. توغّرت صدورهم من بعضهم البعض. امتلأت قلوب كل منهم شكّا وريبة فى الآخر. ندبت الفرقة بينهم وتوجس كل منهم من صاحبه.
في ليلة سبت من شوال سنة خمس هجرية قرر زعيم وقائد قوات الشرك أبو سفيان القيام بهجومه الكبير. أرسل الى بني قريظة ليستعدوا معه للقتال. جاءه الجواب سلبيا بأنهم لا يستطيعون قتالا يوم السبت. طلبوا منه رهنا من رجاله فتحقق لقريش وغطفان صدق ما حدّثهم به نعيم بن مسعود. رضى الله عنه. امتنعوا عن تحقيق مطالبه. تحقق لليهود كذلك صدق حديث نعيم بن مسعود. تفرّق الشمل بين الأحزاب وانعدمت الثقة وتفتّت وحدتهم وتحالفهم. نشب الخلاف بين الحلفاء فتوقف الهجوم!
بينما هم علي تلك الحال من التخبط والحسرة والحيرة واليأس إذ بعث الله علي قوات الأحزاب ريحا شديدة في ليلة شاتيه شديدة البرد جعلت تقلب قدورهم وتقلع خيامهم وتطرح أبنيتهم وتجرف مؤنهم وتطفىء نيرانهم.
رأي المشركون أن المقام متعذر علي تلك الحالة. رجعوا إلى مكة. رجعت غطفان إلى بواديها. رحلت جميع قوات الأحزاب. قال الله تبارك وتعالى فيهم:
"وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا"
(سورة الأحزاب، آية 25)
لما أصبح المسلمون لم يجدوا أحدا من قوات أحزاب المشركين. ازداد إيمانهم وتوكلهم على الله. وضعت الحرب أوزارها. لم ترجع قريش بعدها إلى حرب المسلمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لن يغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم".
أخذ رسول الله يهتف قائلا:
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو علي كل شئ قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده وهزم الأحزاب وحده، وصدق الله العظيم.
قال ربنا تبارك وتعالى فيهم
"يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا"
(سورة الأحزاب، آية 9)
لم يستشهد من المسلمين يوم الخندق الا تسعة رجال ولم يقتل من المشركين الا أربع!
وهكذا سخّر الله تبارك وتعالى قوى الطبيعة لنصرة المسلمين!
والى لقاء فى الجزء التالى
محمد هاشم عبد البارى
28 نوفمبر 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق