توفى إلى رحمة الله تعالى الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى يوم 5 يناير نسألكم الدعاء له بالرحمه والمغفرة

الجمعة، 30 نوفمبر 2012

الجزء3 - الله.. ثم الطبيعة والحرب والنفس والنصر / أ . د محمد هاشم عبد البارى

بسم الله الرحمن الرحيم

الله.. ثم الطبيعة والحرب والنفس والنصر

الأستاذ الدكتور محمد هاشم عبد البارى

29 نوفمبر 2012م

^^^^^^^

الجزء الثالث

 

غزوة تبوك

وقعت غزوة تبوك في رجب التاسع للهجرة فى أعقاب فتح مكة.  كانت آخر غزوة خاضها  رسول الله صلى الله عليه وسلم.  لقد تسبب الروم فى احداث توترات مع القوات الإسلامية بقتل سفير رسول الله "الحارث بن عمير الأزدي".  ترتب على ذلك "معركة مؤتة" التي ألقت في قلوب العرب هيبة للمسلمين كقوة تناوىء الرومان.  لكن الآن وقد اختلف الوضع وأصبحت مكة في أيدي المسلمين وبدأ العرب يحالفونهم أفواجا وراء أفواج أصدر قيصر الروم أوامره باجتثاث تلك القوة المنافسة من جذورها لاعادة فرض سيطرته على جميع أرجاء المنطقة.  بدأ القيصر بجمع قواه وبناء جيشه المحلي من الرومان وجيشه الخارجي من الحلفاء العرب وعلى رأسهم وأقواهم آل غسان قتلة السفير الإسلامي. خرج ذلك الجيش الجرّار مستعداً بعدده وعتاده وقد بلغ الأربعين ألف مقاتل.  وصلت أخبار الروم إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في وقت صيف قحط أجدبت في الأرض واشتد فيه الحرّ وقلّ فيه المؤن والماء.  كان موقف المسلمين غاية فى الحرج.  لكنّ رسول الله لم يكن يملك حلاً سوى مواجهة الرومان رغم كل تلك التحديات التي كان يعيشها المسلمون.  أتى القرار الحاسم الذي لا رجعة فيه من القائد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج والزحف لمواجهة حشود الروم.  بدأ رسول الله بإبلاغ قبائل العرب المجاورة وأهل مكة لاستنفارهم على الجهاد وحثهم على الصدقات والدعم المادي للجيش الإسلامي.  نزلت آية من سورة التوبة توصي المسلمين بالقتال والصمود.

"قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ"

 (سورة التوبة: آية 14)

 

كانت ردة فعل المسلمين تجاه قرار رسول الله سريعة واضحة.  تدفقت القبائل والأفراد والمقاتلون الى المدينة.  أتى القاصى والدانى استعداداً لقتال الروم.  استهل الصدّيق أبو بكر رضى الله عنه بذل الصدقات لدعم القوات الاسلامية بقيادة رسول الله.  أتى اليه صلى الله عليه وسلم بكل ماله.  كان أربعة آلاف درهم.  تصدق عثمان بن عفان رضى الله عنه بالكثير.  ساق الى القائد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مائة بعير بمستلزماتها.  أتى بألف دينار وألقاها في حجر رسول الله ورسول الله يقول:

 "ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم"

 ولا يزال ذو النورين رضى الله عنه يتصدق.  بلغت صدقاته فى تلك الغزوة فى وقت الشدة مائة فرس وتسع مائة بعير فضلا عن الأموال.  نعم، لم يقف أثرياء العرب المسلمين مكتوفى الأيدى يتفرجون، ولا هم كانوا لاهون فى أموال المسلمين يبعثرونها على الملذات واقتناء اليخوت وينفقونها على نساء أوربا وروسيا وأوكرانيا.  لم يكن أثرياء المسلمين طعوما تتصيدهم نساء مخابرات العدو يغوونهم ويبتزونهم ويوسوسون لهم بالتنازلات المهينة المذلة.  لم يكونوا يكنزون أموال المسلمين فى بنوك الرومان ويقتّرون على اخوانهم من المسلمين ولا على الجهاد فى سبيل الله وفى سبيل نصرة اخوانهم فى الدين.  كلا، لقد كان المسلمون أغنياء وفقراء رجالاً ونساءً يقبلون على القائد رسول الله من كل حدب وصوب بما استطاعوا من كثير وقليل.

  خرج المسلمون من المدينة بعدد كبير.  لم يتخلف عن الخروج لقتال الروم مع رسول الله الا من كان أعمى أو أعرجا أو مريضا أو غير قادر على التجهيز للحرب لشدة فقره وعدم مقدرته على الحصول على دابة تحمله كل تلك المسافة.  كان كل هؤلاء تعذبهم أحوالهم التى حالت بينهم وبين قتال العدو فى سبيل الله فكانوا يبكون لحرمانهم من الجهاد.

"لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(*) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ"

(سورة التوبة: آية 92،91)

 

 ثلاثون ألف مقاتل فى ظروف الحرّ والقيظ والجدب والفقر والجوع والعطش لم يتخلف منهم إلا المنافقين وثلاثة من الصحابة تخلفوا بلا عذر فنزلت فى شأنهم آيات كريمات. استخلف رسول الله على المدينة "محمد بن مسلمة" وقيل "سباع بن عرفطة".  جعل علياً كرم الله وجهه خليفة على أهله.  سار جيش المسلمين قاصداً تبوك.  كان العدد كبيرا لم يألفه المسلمون من قبل.  ولكن المؤن والعتاد لم تكن تتناسب مع العدد الهائل.  لجأت قوات جيش المسلمين الى أكل أوراق الشجر من شدة الجوع حتى تورمت شفاههم. ذبحوا البعير ليشربون مما في بطونها من ماء من شدة العطش.  كان الأمر عسيرا على القوات الاسلامية.  المسافة بين المدينة وتبوك 680 كيلومترا بالطرق الممهدة السريعة اليوم.  لم تكن الطرق ممهدة ولم تكن الطرق مستقيمة.  لربما قطع جيش المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضعاف تلك المسافة فى رمال الصحراء.  قوات تقطع كل تلك المسافة راجلين أو على ظهور الجمال والخيول والحمير والبغال ليقاتلوا عدوا على بعد 680 كيلومترا ولا ينتظروا قدوم ذلك العدو.  انهم ينقلون الحرب خارج أرض المسلمين.  انهم يذهبون اليه دون خوف ولا تردد ولا وجل ولا تسويف ليقاتلوه وهو أحد القوتين العظميين الراسختين فى العالم فى ذلك الزمان وهم أمة ناشئة لتوها. لا دبابات ولا مصفحات ولا مجنزرات ولا طائرات ولا حتى عربات كارّو.  حرّ وعطش وجوع ونقص فى العتاد.  هكذا عُرف هذا الجيش باسم جيش العسرة.

"لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (*) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"

(سورة التوبة: الآيتين 117و118)

 

ولكنهم لم تعوزهم الشجاعة ولم يكن لديهم نقص فى الايمان ولا الاقدام ولا الاصرار.  كانوا فى معيّة الله عزّ وجل.  نزل المسلمون بتبوك.  بدأت الاستعدادات للقتال.  قام فيهم رسول الله وخطب فيهم.  نزل خبر وصول القوات الاسلامية بقيادة رسول الله على الرومان نزول الصاعقة.  لم يكن ذلك فى حسبانهم ولا فى تصورهم ولا فى تنبؤاتهم ولم يكن ليخطر على قلوبهم.  لم تستطع مخابرات القوة العظمى الرومانية النجاح فى اكتشاف قدوم القوات الاسلامية طوال خمسة عشر يوما من تحركها من المدينة. ولم يكن من بين المسلمين خائنا ولا ضعيف النفس ولا كلب حراسة للعدو يجتمع مع نساء موساد الرومان ليدبر ويفتعل أزمات لتربك رسول الله وجيش المسلمين.  حتى المنافقون لم يتمكنوا من التخابر مع العدو الرومانى ويبلغوه بتحرك جيش المسلمين.  أربك تفاجؤ الرومان بجيش المسلمين قيادة الرومان. شلّ قواتهم عن الحركة وجمّدهم في مكانهم فلم يتقدموا.  تفرّق جمعهم وولوْا الأدبار. تبددت قواهم ووهنت عزائمهم ولاذوا بالفرار وتشتتوا في الأمصار وذهبت ريحهم.  لم يحدث صدام ولا قتال ولا نزال بين الجيشين ولا التحام.  كتب الله النصر للمسلمين بقيادة رسوله صلى الله عليه وسلم.  اكتسب المسلمون سمعة عسكرية رهيبة قوية رادعة في قلوب الناس.  أصبح المسلمون قوة عظمى يحسب لها ألف حساب.  نبذ الكثير من حلفاء الروم التحالف معهم وتوجهوا للجيش الإسلامي المنتصر القوى المهاب.

 رجع الجيش الإسلامي إلى المدينة وقد حمل لواء الانتصار دون قتال. أصبحت له سمعة لم تكن له من قبل بين الناس.  وقعت خلال رحلة عودة المسلمين محاولة لاغتيال رسول الله.  تربّص اثنى عشر منافقاً محاولين قتله في موقع كان مناسبا لهم عندما كان جُلّ القوات الاسلامية في بطن أحد الأودية.  لم يكن مع الرسول سوى عمار وحذيفة بن اليمان رضى الله عنهما.  حماه حذيفة وارتعب المنافقون وفرّوا.  ونزل في القران الكريم:

"يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ۚ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ۖ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ"

سورة التوبة: آية 74)

)

عندما أقبل رسول الله على مشارف المدينة فى عودته المظفّرة بالنصر فى شهر رمضان قال

 "هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه"

 

 

وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه

 

خرج أهالى المدينة من النساء والأطفال لاستقبال الجيش الاسلامي العائد بالنصر والقوة والعزة.  استغرقت تلك الغزوة الشاقة بلا قتال خمسين يوماً.  منها عشرين يوما فى مواجهة قوات الرومان فى تبوك وثلاثون يوما ذهابا وايابا. عبر فيها جيش المسلمين صحراء قاحلة سيرا وعلى ظهور الدواب مئات الكيلومترات.  لا قطارات ولا حافلات مكيفة ولا استراحات ولا فنادق ولا دورات مياه ولا مياه ولا طعام .  عبروا الطبيعة بقوة الايمان والعزيمة والاصرار والاخلاص لله ولرسوله وللعقيدة والأمة.  أىّ رجال كانوا هؤلاء وأية أمة كانت  تلك وأى رجال وأى أمة أصبحت؟  هل يمكن أن يصدّق الأمريكان أو الروس أنّ مثل تلك العزائم كانت تسير يوما على الأرض؟  لقد كانوا أهلا للنصر فنصرهم الله وكانوا أهلا للظفر فأظفرهم الله.  لقد اشترى الله منهم أموالهم وأنفسهم وهم باعوا دنياهم بآخرتهم فكانوا من الفائزين؟  بم تاجرنا نحن مع الله؟  ماذا بعنا لله وماذا اشترينا؟  وكم دفعنا وماذا أنفقنا؟  لقد باتت حياتنا كلها شكاوى.  من شكوى الى شكوى. بلا بأس يقاس الا ما نجلبه على أنفسنا ببعدنا عن الله واتباع الهوى وحب الدنيا واسقاط الآخرة من حساباتنا و"أجنداتنا".

السلام عليك يارسول الله ورضى الله عن أصحابك أجمعين وجمعنا معك ومعهم فى مستقر رحمته.

 

الى لقاء فى الجزء التالى

 

محمد هاشم عبد البارى

29 نوفمبر 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق